1 قراءة دقيقة
الحلقة: الثامنة والستون - الجزء الثاني

الحلقة: الثامنة والستون - الجزء الثاني
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي (الحلقة والأغنية مهداة إلى روح عمتي العزيزة أسماء).


وصلت المعلومات إلى قيادة الثورة بأن مجموعة من العوائل المُرحلة من قِبل النظام قادمين من بغداد إلى حيث المناطق المحررة، وهذه المعلومات وصلتهم عن طريق الشباب الثلاثة الذين كانوا برفقتنا والذين تطوعوا لصعود الجبال عند الجسر هاملتون لطلب نجدتنا، وقد ساروا لعدة ساعات إلى أن أستطاعوا الوصول إلى مفارز البيشمركة، وعندما وصلوا إلى أحدى مقرات البيشمركه أخبروهم عن ظروفنا ومعاناتنا، حتى وصلت الأخبار إلى مقر قيادة الثورة فأرسلوا مفارز من البيشمركة إلى جسر هاملتون ولكنهم شاهدوا المكان فارغا.. فقرروا نشر عدة مفارز من البيشمركة وفي مواقع متفرقة للبحث عنا.
أما بالنسبة لنا فقد عدنا مرة أخرى إلى نفس المكان الذي بدأنا منها رحلتنا وكانت عبارة عن معسكر صغير، وأن تلك المنطقة كانت مقر قيادة فرقة المشاة الثامنة وهذه الفرقة كانت مسؤولة عسكرياً عن أربيل - شقلاوة - حرير- سبيلك - كلي علي بك - راوندوز - كلالة - حاج عمران، وكان المسؤول عنها حينها هو العميد الركن طه نوري الشكرجي (وقد تم أستبداله بعد هذه الواقعة باللواء الركن عبد المنعم لفتة الربيعي).
نقلاً عن والدتي عند عودتها إلى مقر القوات العراقية، قالت.. أنها حينما وصلت هي والسيدة حمدية إلى حيث مقر تلك القوات، كان (العميد الركن طه الشكرجي) موجوداً في تلك اللحظة في ذلك المعسكر، فعرفته والدتي بنفسها بأنها زوجة صالح اليوسفي، ومرة أخرى والشهادة لله قالت أمي أنهُ عندما سمِع بأسم صالح اليوسفي أستقبل أمي بكل إحترام، فشرحت لهُ والدتي الظروف التي واجهتنا في جسر هاملتون المُدمر والمياه المتدفقة والبرد القارص وإستحالة تسلقنا للجبال الوعرة وبرفقتنا أطفال ومسنين وطلبت منهُ العون.. فتعاطف الشكرجي مع المحنة، وأخبرها أنهُ سوف يحاول أن يجد لنا حلاً ومسلكاً آخر، ولكن لابد أن يُعلم السلطات العليا في الحكومة العراقية، فطلب بعودة كل العوائل، فأسرعت السيدة حمدية لتخبرنا بالعودة إلى المعسكر، وأضافت والدتي بأن العميد طه الشكرجي أخذ يحاورها في الكثير من الأمور وعن أسباب الحرب التي أشتعلت، ومجدّ بشخصية والدي ومواقفه المشرفة وبخبرته السياسية وشعبيته وتفانيه من أجل السلام، وأنه سمع عن والدي كثيراً ويحتفظ بذكريات طيبة عنه، وكان من الشغوفيين بما كان يكتبهُ والدي طوال فترة ترأسه لجريدة التأخي، وبنفس الحديث تحدث أيضاً مع أخي شيرزاد حين ألتقى به.
أقبل الليل ولم يستلموا بعد أي جواب من السلطات العليا للحكومة بعد أن أبرقوا إليهم، وبقينا هكذا في العراء وأشتد الظلام والبرد..! وهنا وبمبادرة فردية من العميد طه الشكرجي وعلى مسؤوليته الخاصة، طلب من جنوده إخلاء إحدى الملاجأ العسكرية لنا، والتي كانت عبارة عن غرفة صغيرة من الطين في باطن إحدى التلال وطلب منا المبيت فيها حتى ينجلي الصباح ويأتي الرد من السلطة العليا بشأن مصيرنا.. وخصص ذلك الملجأ للنساء والأطفال فقط.
أسرعنا إلى الملجأ من شدة البرد، بالكاد حشرونا فيها لدرجة أننا جميعاً كنا في حالة جلوس القرفصاء ولا نستطيع الحركة لضيق المكان، وأخذوا الرجال إلى ملجأ آخر، بعد فترة حاول بعض الجنود الدخول إلى داخل الملجأ بحجة منحنا بعض البطانيات، ولم نكن نثق بنواياهم.. فدخل في الحال العميد طه الشكرجي بعد أن علِم بأمرهم، وأخذ ينهرهم بحزم ويشتمهم ويطردهم، وربما لولا وجود العميد طه الشكرجي لحصل لنا ما لا يحمد عقباهُ في تلك الليلة..!
وهنا أود أن أشير إلى ما تعرضت لهُ عمتي العزيزة أسماء من خلال رحلة ترحيلنا، لكونها كانت دوماً جزءاً من عائلتنا المناضلة، وناضلت جنباً إلى جنب مع والدي في كل مراحل حياته النضالية، منذ بدايات خطوات نضاله، ومعاناة جدتي وعمتي إلى كل ما تعرض لهُ والدي من نفي وأعتقال وسجن وتعذيب، كما سبق وأن تعرضت عمتي لمعاناة الترحيل من قِبل نظام الرئيس عبد السلام عارف في عام 1965، ولمدة عامين لاقت أنواع وصنوف المعاناة في مناطق الحرب المشتعلة وتحت قصف الطائرات، هذا إضافة إلى حبها وتعلقها الشديد بنا، ظلت عمتي بصحبتنا طوال حياتها إلى أن توفيت قبل رحيل والدي بعام أثر مرض.
فحينما داهم الأمن منزلنا في ليلة ترحيلنا في 24 نيسان 1974، كانت عمتي نائمة نوماً عميقاً وحينما بادرت أختي هافين وهي في ظل خوفها وبكائها لكي توقضها من النوم، يبدو أن عمتي في هذه الأثناء تعرضت إلى صدمة نفسية عنيفة..!
في تلك الليلة التي قضيناها في الملجأ، صادفت أن تكون عمتي بجانبي، بدأت أشعر إنها غير طبيعية.. حيث أخذت تهذي..! فكانت تخبرني إنها تشعر بالجوع والبرد وتريد أن أخذها إلى غرفتها..! فأنتابني الخوف والقلق وكنت أصغر مما أستوعب مثل هذه الأمور..! أخذت أشرح لها عن محنتنا وظروفنا.. ولكن دون جدوى.. لم تكن تستوعب ما كنتُ أشرح لها عن هذه المحنة..! وبقيت طوال الليل أقنعها لتنام قليلاً.. ولكن كل جهودي ذهبت سدى..! وأزدادت حالتها سوءاً طوال الليل ولم يغفى لي جفن رغم التعب والجوع والبرد.
ومع ساعات الفجر جمعوا شملنا مرة أخرى، شرحت لأمي ما جرى ليلة أمس مع عمتي، أخبرتني أن هذه ليست المشكلة ولكن المشكلة المصير الذي أمامنا، فأخبرتُ أختي هافين فقالت أنها أدركت ذلك منذ الليلة الأولى.. شعرتُ أن حالة عمتي سوف لن تعدي على خير.. وما زالت تسألني إنها تريد الذهاب إلى غرفتها.
أحضروا لنا مركبة عسكرية (لوري عسكري)، ساعدت عمتي ووجدت لها مكاناً للجلوس وجلست على أرضية المركبة بجانب قدمي عمتي لمراقبتها خشية أن تفعل شيئاً دون وعيها، فهي ما زالت مصدومة والأبتسامة لا تفارق وجهها وكأننا في نزهة ولسنا في مصيبة..! حمدت الله أنها كانت على هذه الحالة من التفأل والسعادة عكس ليلة أمس..! ربما كانت تظن أننا سوف نعود إلى البيت..
عادت بنا المركبة العسكرية إلى حيث موقعنا الأول في مدينة شقلاوة، وهناك وجدنا عميد الركن طه الشكرجي كان قد أستلم الأوامر وسبقنا هناك..
وهنا أود أن أتحدث عن موقف أستثنائي آخر من العميد طه الشكرجي أتجاه زوجة المناضل الشهيد دارا توفيق، كانت السيدة زوجة المناضل دارا توفيق (أم دلير) وبصحبة أطفالها الثلاثة من ضمن الوجبة الأولى للعوائل التي تم ترحيلها من بغداد، وبدا واضحاً أنها كانت تمر بأزمة صحية شديدة، وكانت في حالة يرثى لها من الآلام والمعاناة وأشتدت محنتها عندما قضينا يوماً كاملاً عند جسر هاملتون وفي الملجأ.
وبعد وصولنا إلى مدينة شقلاوة تدخلت والدتي مرة أخرى، وقابلت العميد طه الشكرجي وشرحت لهُ عن حالة السيدة أم دلير ومدى حاجتها لدخول المستشفى في أقرب فرصة وترجت منهُ مساعدتها، والحمد لله تعاطف العميد الشكرجي مع الموقف، وسمح للسيدة أم دلير بالعودة للعلاج كحالة أستثنائية من بين المُرحلين، وهذه كانت مبادرة شخصية من قِبل العميد طه الشكرجي وعلى مسؤوليته الخاصة؟.
(بعد أن تعافت السيدة أم دلير، ألتحقت بزوجها وقامت بزيارتنا في مدينة نغدة في بادرة شكر وعرفان لموقف أمي في مساعدتها لها حينها).
أتوقف أيضاً عند موقفين لسيدتين كانتا زوجتي مناضلين ومن الملتحقين بالثورة، لا أريد ذكر أسمائهن لعدم الإحراج، فبعد أن تعاطف العميد طه الشكرجي مع حالة أم دلير الصحية، طلبت تلك السيدتين منهُ أيضاً بالعودة بعد تقديم حجج واهية..! إحداهن أدعت أنها من أصول عربية وليس لها أية علاقة بالثورة الكوردية، رغم أن زوجها من الشخصيات الكوردية ومن الملتحقين بالثورة، والثانية أيضاً حاولت أستمالت عطف العميد الشكرجي بالعودة.. سمح العميد للسيدة الأولى، ورفض طلب السيدة الثانية لكون زوجها من كبار قادة المُلتحقين بالثورة، وليست لديها أي حجة أو مبرر.
بعد ذلك ركبنا مركبات للتوجه بنا إلى طريق آخر.. وعلى مسافة طويلة طلبوا منا الترجُل من المركبة، في البداية عزلوا النساء والأطفال على جهة ثم طلبوا من الشباب والشيوخ أن يقفوا جميعاً في صف واحد..! خَيم السكون في لحظات من الخوف، فالنساء أصبن بالهلع من رص الرجال، وظنن أنهم قد يبادرون في أي لحظة برميهم.. وكان يبدوا على الضباط والجنود وكأنهم ينتظرون أمراً ما..! لحظات قاسية مرت ونحن نترقب.. وبعد لحظات تراجعوا وأشاروا إلى الطريق الذي أمامنا للسير في إتجاهه..
أخذنا نمضي طوال ساعات على شكل مجموعات متفرقة كل حسب قوته في السير.. وبين الحين والآخر كنت أنظر إلى خطوات عمتي التي كانت تسير خلفنا بصحبة بعض النسوة، وصلنا إلى قرية صغيرة وقد أعيانا التعب والجوع والعطش، كانت القرية شبه مهجورة وفيها عدد قليل جداً من العوائل، قام أفراد تلك القرية بأمدادنا ببعض الماء والخبز وهم يرقبوننا بحزن..
أكملنا السير طول النهار دون أن نصل إلى هدف معين، أخذتُ أنظر خلفي أبحث عن عمتي فلم أجدها..! أخذنا نبحث عنها أنا وأختي هافين.. سألنا بعض النسوة اللاتي كانت عمتي برفقتهن فأخبرونا إنهن شاهدوها آخر مرة في تلك القرية التي مررنا بها، وقالت إحدى السيدات إنها دخلت إلى أحدى بيوت القرية، قلقت على عمتي ولا أعرف ماذا أفعل..؟! وأين أبحث عنها..؟!، هل أعود إلى القرية وأفتش عنها..؟! ولكن المسافة أصبحت بعيدة ولن تسمح أمي بهذه المجازفة، وأخي شيرزاد كان يسبقنا بمسافة طويلة مع مجموعة الشباب، أخذت طريقي وعيناي تتجه بين الحين والآخر إلى الخلف لعلي أشاهد عمتي خلفنا..
كنا عبارة عن مجموعات متفرقة، وكانت المسافة بين مجموعة وأخرى متفاوتة إلى عدة أمتار وذلك يعتمد على الحالة البدنية لأفراد المجموعة، الكل كان يواصل السير ويريد أن يصل إلى هدف، حزنت على عمتي وخشيت أن يكون قد حدث لها مكروهاً، عشرات الأسئلة كانت تجول في خاطري، وأشد ما بدأ يقلقني ويحزنني ماذا سنقول لوالدي وكيف سيواجه الخبر..؟! لا بد أنه سوف يحزن كثيراً، أخيراً وبعد اليأس أستسلمتُ وواصلت الطريق مع الجماعة، وأنا أتمنى أن تظهر عمتي في أي وقت.
أقتربنا من إحدى الغابات، وإذا بنا نرى مجموعة من البيشمركة ظهرت من بين الأشجار..! سررنا برؤيتهم، رحبوا بنا وأخبرونا بأن معلومات قد وصلتهم من قيادة الثورة عن ترحيلنا فجأوا لنجدتنا، وساروا بنا وهم يُحذروننا من الأمكان الملغومة، حيث كانت لديهم خبرة، فكانوا يؤشرون لنا عن بعض الألغام التي كانت تبدو بصورة واضحة، ويُحذروننا من ألتقاط أي شيئاً على الأرض لأنها قد تكون ملغومة.
وعند منتصف الليل وصلنا إلى إحدى القرى وكنا منهكين من الجوع والتعب، فتم توزيعنا بصورة منظمة على العوائل القليلة الموجودة في القرية، كل عائلتين أو ثلاثة كانت في ضيافة بيت، وأحضروا لنا الخبز واللبن والجبن وفرشوا لنا في فناء الدار، ولأول مرة أستطعنا النوم رغم البرد، ولكن غصة الألم كانت تأخذني بين الحين والآخر إلى حيث مصير عمتي العزيزة التي فقدنا أثرها تماماً، وأخذت دموعي تنهمر بصمت على مصير عمتي إلى أن غلبني النوم.. ومع ساعات الفجر أستعدنا لمواصلة السير... يتبع

تم عمل هذا الموقع بواسطة