مشاهد حية ويوميات من أتفاقية 6 آذار..(7)
لم يتنازل والدي عن تصميمه لعمل شيء بعد مرور شعبه بهذه النكبة، وخاصة بعدما توافدت جموع غفيرة من الذين ألتحقوا بالثورة على منزلنا في مدينة نغدة الإيرانية، وهذا ما جعل والدي يفكر في مرحلة ما بعد إنهيار الثورة والمصير الذي ينتظر عشرات الألوف من هؤلاء الملتحقين وعوائلهم، وخصوصا بعد أن أعربت الغالبية العظمى منهم بأن وجودهم داخل معسكرات الإيرانية غير ذي جدوى تحت ظل نظام الشاه ومؤامرته الخيانية(1).
كما هو معروف فإن والدي أختار كعادته المألوفة في رحلة نضاله الطويلة.. الطريق الأصعب والأخطر..! كان مؤمناً من القيام بمحاولة ما.. فجعل مصلحة شعبه في قمة مسؤولياته وأولوياته، وقال مراراً: (( لقد كنت واثقاً من خطورة القرار بل كنت أرى بأم عيني أعواد المشنقة التي يتدلى منها نعشي، ولكن مصلحة شعبي فوق كل شيء..)) فضل والدي المغامرة والرهان على الخطوة الأخيرة والمهمة الصعبة ومهما كانت النتيجة بعد أن أقفلت جميع الأبواب أمامه فلم يكن لديه خيار آخر، على أمل حتى وإن كان ضعيفاً من فتح أبواب المفاوضات مع النظام من أجل خطوة السلام وإلغاء الأتفاقية.. حيث كان مؤمناً بحدسه وخبرته بأن هذه الأتفاقية سوف تجلب الدمار والكوارث لا على شعبه فقط وإنما على عموم العراق.. وصدق حدسه..!
لقاء والدي بالزعيم البارزاني..
أخبرنا والدي لاحقاً فور وصوله بصحبة المناضل محسن دزه يى إلى مقر الزعيم في حاج عمران، أجتمع مع الزعيم على أنفراد، ودار بين الاثنين حوار طويل ومنفرد أستمر طوال تلك الليلة وحتى ساعات الفجر.. في البداية عاتب الزعيم والدي على عدم زيارته له وإنقطاعه عنه في الفترة التي سبقت الأتفاقية ليتداولا في الأمور والآراء، فأجاب والدي بكل صراحة قائلاً: ((حاولت مرارا مقابلتك في المدة الأخيرة إلا أن هناك مجموعة معينة داخل القيادة..... هي التي كانت تحاول إبعادي عنك، وكانوا يتحججون بشتى الأعذار لمنعي من الإجتماع بك..))..!
بعد هذا الإجتماع التاريخي بين أقوى رجلين في الحزب والقيادة الكوردية.. أستمرت لساعات طويلة وللأسف الشديد ذهبت تفاصيل ذلك الحديث برحيلهما.. وقد أستطعت أن أستخلص مقتطف تاريخي مهم من هذا اللقاء من خلال مذكرة والدي إلى صدام.. حيث أشار والدي وبخط يده من خلال هذا النص خلال لقائه بالزعيم (ليلة 22- 23 آذار 1975) ما يلي:((.. علماً بأني كنت قد ألتقيت مع المرحوم البارزاني ليلة صبيحة عودتي وتباحثت معه بشكل منفرد حول ضرورة العودة إلى رحاب العراق العزيز وأسترداد كل ثقة وتعاطف وتحالف قيادة الحزب والثورة من جديد وبشكل مصيري مكين والاشتراك سوية في محو الآثار الضارة البليغة التي ألحقت بالعراق نتيجة التوريط في أحابيل التحريف والمواجهة القاتلة وإقدام القيادة بإبرام أتفاقية الجزائر التآمرية فوجدته متأثراً ومتألماً من تآمر السلطات الإيرانية والأوساط الأمبريالية المرتبطة بها على الطرفين وغير واثق بها وبتآمرهما ويشعر بخطورة موقفه وأعرب عن تقديره لإخلاصي وأستقامتي ومواقفي ونصائحي المتواصلة وتذمره الكبير لعدم الأستجابة إليها كما أعرب عن أستجابته إلى العودة فيما إذا تلقى رداً إيجابياً ضامناً منكم لا كالرد السلبي الأستفزازي إلى المكتب السياسي وأستعداده للتضامن معكم في كل صغيرة وكبيرة ودون أية مناورة وتكتيك فيما لو حصل على مثل هذا الردّ وقد جاوبني بعد أستفساري منهُ عن ماهية نوعية الردّ الإيجابي أو بالأحرى المبادرة الإيجابية منكم للإستجابة ولكن مع الأسف الشديد لم أتلق منكم سوى الإهمال والإندفاع نحو سراب نشوة الظفر الموهوم وبردود إنفعالية متسمة بطابع التشفي والشوفينية...(2))).
محطات مؤلمة مع والدي في رحلة عودته (الجزء الأول).
في صباح اليوم التالي غادر والدي مقر الزعيم البارزاني مودعاً إياهُ من خلال لحظات وموقف تاريخي مؤلم جداً.. للأسف لم تسنح الظروف الصعبة حينها من تسجيلها أو توثيقها إعلامياً وعلناً لعدة أسباب منها.. الظروف الصعبة التي كانت تمر بها القيادة حينها من آثار النكسة وردودها.. وثانياً خوفاً من ردود فعل نظام الشاه من عملائه ومخبريه المنتشرين حينها في كل الأماكن.. تعانقا الأثنان بلحظات وداع لا يحسد عليه في تلك الأجواء وفي قلبيهما ألف وجع وحسرة وبصيص خافت من الأمل لعل وعسى أن تكون محاولة موفقة.
غادر والدي وتوجه نحو العمق العراقي في المنطقة الحرام تاركاً جبهة قوات البيشمركة خلفه ومتقدماً صوب القوات العراقية يرافقه حارسه الشخصي (عبد الله عقراوي(3)) تابعا سيرهما عبر الطرق الجبلية الوعرة في ظل لحظات من الصمت الموحش والمؤلم..! وبعد مسافة أمر والدي حارسه عبد الله من العودة حرصاً على حياته، ترجى وتوسل عبد الله من والدي أن يكون برفقته أينما يذهب ومهما حصل.. لكن والدي رفض رفضاً قاطعاً خوفاً على مصيره، فلم يكن والدي يؤمن على نفسه فكيف يؤمن عليه.. فأمرهُ بالعودة مرة أخرى.. لم يستطيع ذلك الرجل المخلص الأمين الوفي من تحمل الموقف فأنهار أمام والدي في هستريا من البكاء الموجع.. كان موقف عبد الله هذا كالخنجر المسموم في قلب والدي وهو يتخيل مشاعر العشرات من أبناء شعبه بنفس موقف عبد الله من خلال هذه النكبة.. وبالكاد أستطاع والدي ن يسيطر على أحاسيسه وأن يطمأنه على هذه الخطوة لعل الخير فيه.. وهكذا أقنع والدي عبد الله بالعودة.
سار والدي لوحده مسافة طويلة وذكر لنا لاحقاً أن الله أنقذهُ بمعجزة أثناء مسيرته..! حيث كانت الطلقات تنهال عليه وتتساقط بالقرب منه وتحت قدميه..! وتأكد لوالدي فيما بعد أنها كانت من قبل عملاء الشاه، وأنهم كانوا يستهدفون اغتياله قبل وصوله إلى القوات العراقية لمنعه من القيام بهذه المهمة (ولا شك رسائل الطيار المختفي (صفاء شلال) قد وقعت بين أيديهم، وكذلك أخبار لقاء والدي بالزعيم البارزاني في تلك الليلة) فقد أنتشر جهاز السافاك وعملاء إيران بالعشرات خلال تلك الفترة في المنطقة.. وكان يبدو واضحاً إنها كانت بادرة تستجدي إرضاء إيران وتهدف إلى اغتيال والدي ومنعه من الوصول..! وقد خيب الله محاولتهم بقدرته.
تابع والدي سيره لوحده مسافة طويلة ما بين إطلاقات النار المستمرة وخطورة الألغام المزروعة في المنطقة، إلى أن أصبح على مرأى من القوات العراقية، ونقلاً عن (العقيد الركن إدريس) وهو أحد ضباط مدرسة المشاة في الموصل في فترة الثمانينيات حيث ذكر أنه في آواخر آذار 1975 حين كان آمراً لإحدى وحدات المشاة التابعة للفرقة الثامنة في منطقة ديانا.. بأن أحد جنوده وفي أثناء فترة الرصد للجبهة هرع إليه مسرعاً وأخبرهُ:(( أن هناك شخصاً أبيض الملامح طويل القامة يرتدي معطفاً أسود ويضع على رأسه قبعة سوداء ويخترق الجبهة سيراً على الأقدام متقدماً نحوهم..؟!)) فقام هذا الضابط بأستكشاف الأمر بنفسه وتأكد لديه صحة ما قاله الجندي الراصد، فتوقع في البداية قد يكون أحد الصحفيين الأجانب المغامرين ( قد جاء لتغطية الحدث عن عودة البيشمركة بعد وقف إطلاق النار (حيث بدأت حينها تستسلم بعض أفراد البيشمركة إلى القوات العراقية)، فأنتظر الضابط أدريس وأخذ يراقب خطوات الشخص القادم حتى وصل إليهم فأخبرهم في الحال: بأنه صالح اليوسفي وطلب من الضابط إبلاغ مراجعه العليا بأمر وصوله.. وشرح للضابط أدريس عن مهمته طالباً منه ترتيب أمر إجلائه إلى بغداد للقاء بالسلطات العراقية، فقام هذا الضابط في الحال بإخبار آمر وحدته وهو آمر الوحدة المقدم (يحيى الأمارة) الذي هرع على الفور لأستقبال هذه الشخصية المهمة.. وقام بأداء التحية العسكرية له في بادرة أدب ورجولة، ثم قام بالأتصال بقيادته العليا فوراً لأبلاغهم بهذا الحدث المهم(4).
وهنا أيضاً يذكر الأستاذ حمزة الحسن:(( وحين توغلنا أول الأمتار في المضيق أعلنت اتفاقية الجزائر في 6 آذار فشعرنا كجنود بفرح عاصف بعد أن تخلصنا من عذابات كثيرة محتملة. أتذكر جيداً كيف أن المرحوم اليوسفي عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي قد سلم نفسه في المكان الذي تواجدت فيه وكيف قام آمر الوحدة المقدم (يحيى الإمارة) بأداء التحية له في بادرة لطف وحساسية وأدب ورجولة لقائد ومناضل خذلته مصالح دولية وأجهضت ثورته.. فهل تعلم الأكراد شيئاً من هذه المأساة..؟! (5)))... يتبع
مصادر وهوامش:
(1) يذكر المناضل فاروق ئاكره يى عن آخر لقائه بوالدي:(( لأول مرة عبر اليوسفي حدود إيران وأنظم إلى عائلته في (نغدة)، وكنت قد سبقته إلى عائلتي في (شنوه)، وبعد أيام أستدعاني إلى منزله برفقة قريبه (خالد اليوسفي) وبعد سرد الأحداث وتأثره من عدم الأخذ برأيه في مواصلة المقاومة المسلحة حيث قال: (كانو يصفوني بحمامة السلام بأستهزاء.. وفعلاً أنا من عاشقي السلام.. لكني طالبت بإلحاح بعدم هدم أركان المقاومة وبقاء البارزاني القائد التاريخي لها.. لكن حدث ما حدث.. وكان محيراً في كيفية التصرف.. سأل عن رأي وقراري.. فأوضحت بأنه من المحزن أن نعيش تحت مظلة (الشاه) وخيانته.. وسوف نعود للعراق ومهما كانت المخاطر.. أيد توجهاتي وأبلغني بقراره في العودة ومحاولة إنقاذ ما يمكن عمله والدفاع بواقعية عن عدالة قضية شعب كوردستان.. وأوصاني بالتأني في تنفيذ القرار..)).
(2) مقتطف من رسالة والدي إلى الرئيس صدام 30 تموز 1980- المقتطف بخط يده موجودة في التصميم.
(3)عبد الله عقراوي كان الحرس الشخصي لوالدي منذ أيام الوزارة إلى نكسة 1975، كنت أتمنى لو كانت لدي صورة شخصية له لكي أنشرها، نظراً لنضاله ولإخلاصه ووفائه العميق لوالدي ولعائلتنا.
(4)نقلاً عن الدكتور جهاد مدحت الجاف الذي كان طبيباً مجنداً في مستشفى الموصل العسكري وكان ضمن الأطباء المشرفين على العقيد الركن (أدريس) المصاب أثناء الحرب العراقية الإيرانية عام 1987، فأخبره الضابط أدريس عن تفاصيل أستقباله لصالح اليوسفي.
(5)مقالة أوهام القبض على الدكتاتور( الأخيرة) ثلاثة قوانين للموت - حمزة الحسن - الحوار المتمدن