الحلقة: الثالثة والستون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
منذ منتصف عام 1973 كانت هناك رسائل وأتصالات مستمرة ومتبادلة بين الرئيس أحمد حسن البكر والزعيم ملا مصطفى البارزاني لإيجاد الحلول المناسبة مع أتفاقية آذار وهدنة الأربع سنوات، بدأت هذه الرسائل المهمة والمتبادلة منذ أن ألقى الرئيس البكر خطابهُ في يوم عيد العمال العالمي في أيار/ مايس 1973، حيث أرسل الزعيم البارزاني رسالة للرئيس بكر مجدّ من خلالها خطابه وهذا مقتطف منها: ((إننا في الوقت الذي نقدر فيه كل التقدير لتأكيد سيادتكم على ترسيخ وحدة العرب والأكراد وتحقيق الحكم الذاتي للشعب الكوردي قبل حلول آذار المقبل وإستكمال البنود المتبقية من أتفاقية آذار وتحقيق الجبهة الوطنية بأعتبارها القاعدة المتينة التي تهيء لبلادنا إمكانيات التفرغ لإداء واجباتها القومية على النطاق العربي نودّ أن نعرف لسيادتكم عن أستعدادنا الكامل للتعاون في كل ما من شأنه خدمة شعبنا ووطننا العراقي العزيز والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... أخوكم مصطفى البارزاني 10/5/ 1973(1))).
ردّ الرئيس البكر برسالة مطولة شكر من خلالها الزعيم البارزاني هذا مقتطف منها: ((إننا، أيها الأخ، ننظر إلى الحل المنشود لتآخي القوميتين الشقيقتين على أنه هو القضية المبدائية والوطنية التي تواجهنا أما التفصيلات فهي دون ذلك على كل حال لأن إحلال السلام في ربوع الوطن وفي إطار الحل الوطني الديمقراطي للمسألة الكردية أكبر بكثير من جزئيات الأشياء التي فرضتها علينا مراحل الإصطراع... حضرة الأخ إننى على ثقة من أن حكمتكم وحسن درايتكم وتقديركم للأمور وللظروف التي يمر بها وطننا وأمتنا العربية والقضية الكوردية نفسها ستكون دافعاً وسنداً لإجتياز الخطوة الأخيرة المتبقية والتي ننظر إليها من جانبنا كبداية للخطى البناءة لتحقيق السلام وتوطيد الأخوة بين أبناء شعبنا العظيم.. وفي الختام أتمنى لكم ولإخوانكم كل الخير.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أخوكم أحمد حسن البكر(2))). أستمرت هذه الرسائل بين الزعيم البارزاني والرئيس البكر إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1973..
لا يستطيع أحد أن ينكر من الذين عاشوا تجربة أتفاقية آذار التاريخية وما عاشه الشعب العراقي بعربه وأكراده وأقلياته المتآخية كيف حملت الأتفاقية من مشاعر السلام والتآخي والأمن والأستقرار بين أبناء الشعب، وكان الكُتاب والشعراء على أختلاف قومياتهم ومذاهبهم وأديانهم وفي كافة المحافظات العراقية يعبرون عن فرحتهم تحت ظل السلام والتآخي، ومَن لديه أعداد من جريدة التآخي خلال تلك الفترة سيرى من خلالها القصائد والمقالات التي تعبر عن ذلك، ورغم وجود بعض التجاوزات التي سبق وأن ذكرتها، ولكنها كانت أحداث وقتية وكانت تحل بالحكمة والتأني، ويقوم بحلها المسؤولين الأكفاء ومن كلا الجانبين، وكان لدينا مجموعة من خيرة قادتنا من أمثال صالح اليوسفي ونافذ جلال ونوري شاوه يس وإحسان شيرزاد ويد الله عبد الكريم ودارا توفيق وفؤاد عارف وغيرهم.. وعن إزدهار الأوضاع في ربوع أقليمنا خلال تلك الفترة يذكر الأستاذ شكيب عقراوي: ((لقد كان عام 1973 من أفضل الأعوام بالنسبة للثورة الكردية، وقد أرتفعت معنويات الشعب الكوردي بسبب العوامل الإيجابية التي تجمعت خلال هذا العام.. فقد أزدادت الموارد لقيادة الثورة الكردية وكانت الإمدادات المالية تأتي من مصادر مختلفة وساد شعور عارم في كوردستان بأن الحكومة العراقية لا تستطيع سحق الثورة الكوردية، كما إن الحكومة العراقية أسست بعض المشاريع وشقت بعض الطرق في كوردستان وأستمر دفع الرواتب وصرف الأرزاق لإفواج حرس الحود التي كان ينتمي إليها الثوار الأكراد وتدفق السواح والمصطافون بكثرة إلى مصايف كوردستان، وأنتعش النشاط التجاري في كوردستان العراق لتوفر السلع الإيرانية والعراقية والتركية في الأسواق الكوردية ونشطت الحركة التجارية بسبب ذلك وأرتفع دخل المواطن الكوردي بشكل ملحوظ وأرتفعت معنويات أبناء الشعب الكوردي...(3))).
في بدايات عام 1974 كانت مدة الأربع سنوات المحددة في أتفاقية 11 آذار قد أشرفت على الإنتهاء، وبدأت التحضيرات في المفوضات على مراحل بين طرفيّ الأتفاقية، الحكومة العراقية وقيادة الحركة الكردية للوصول إلى حلول لبعض البنود والمسائل المعلقة ومنها قانون الحكم الذاتي ومسألة المناطق المتنازع عليها والإحصاء وعن حقوق الأخوة الفيليين وبعض النقاط الأخرى، وفي ظل هذه المرحلة الراهنة والظروف العصيبة، بدأت بوادر إنشقاق في صفوف الحزب الديمقراطي الكوردستاني من جانب كل من عزيز عقراوي وهاشم عقراوي وأسماعيل عزيز..!
ونقلاً عن الأستاذ إحسان شيرزاد:(( يوم السبت.. دعانا صالح اليوسفي إلى مكتبه فحضرتُ وإذا بي أرى هناك هاشم عقراوي وعزيز عقراوي ومحمد محمود عبد الرحمن ودارا توفيق وشوكت عقراوي وأسماعيل عزيز وملا عزيز، وعلمت أن عزيز وهاشم وأسماعيل قد جاؤوا إلى بغداد مع عوائلهم، وأقاربهم خشية من الجماعة.. وقد تكلما كثيراً حول الموضوع بإنه وإن كان حقهم ولكن التوقيت خاطئ وخاصة وإننا نقترب من موعد 11 آذار ومن المهم الإتفاق وعند وضوح الرؤيا بصورة كاملة يمكن أن يقوي مثل هذا الإتجاه وبينت إنه قد يكون مفيداً مثل هذا التحرك لو كان بإسلوب آخر... ليلا دعاني دارا توفيق إلى داره على شرف السفير السوفييتي وقد حضر أركان السفارة وفؤاد عارف، وشوكت عقراوي وصالح اليوسفي ومحمد محمود.
يوم الإثنين.. غادر سامي عبد الرحمن إلى الشمال حاملاً معه رسالة جماعة عزيز عقراوي وهاشم وأسماعيل..
الثلاثاء.. زارني عزيز عقراوي وأسماعيل عزيز، وقد بينوا بأنهم قد كتبوا آراءهم إلى الملا مصطفى حول الأوضاع، وقد وجدت فعلا النقاط التي أثاروها صحيحة، وهي أن الحركة يجب أن يكون لها مفهوم سياسي تقدمي وهدف أجتماعي وأن تنظف من العناصر المسيئة، ويجب أن يكون هناك حساب للمسيئين، وحزبهم يجب أن يعلو على الأجهزة الأخرى وأن يتم تطهير جهاز المخابرات..
الجمعة.. اليوم أجتمعنا في ستراند على الغذاء مع عزيز عقراوي وهاشم عقراوي وأسماعيل عزيز وملا عزيز، الحاضرون محمد محمود، ودارا توفيق، وصالح اليوسفي، ومحسن ديزه يى، وفؤاد عارف، وقد علمت أن المناقشات كانت حول رجوع الجماعة ولاحظت أنهم يمتنعون وقد بينوا نواقص الحزب والحركة وعارضوا فكرة الذهاب وطالبوا بتنفيذ مطالبهم..
الأحد.. اليوم دعاني محمد محمود إلى مطعم ستراند وكان الحاضرون علي عبد لله ومحسن دزه يي، وعزيز عقراوي، وشوكت عقراوي، وأسماعيل عزيز، وملا عزيز، ودارا توفيق وصالح اليوسفي، وقد شكر عزيز عقراوي قائلاً: إني أريد أن أبين جوهري تكلم بكل صراحة حول الأوضاع وملابساتها وقال أني لا أميل إلى العمل ضد الثورة ولن أكون جاشا ولن أعمل مع الحكومة ولكن طلبت الأمن للدفاع عن النفس لإننا مهددون.. وقد أبان مسائل كثيرة في الحركة خاصة الأستخبارات ووجود عناصر سيئة فيها، وقال إنه لن يتحرك حتى موعد 11 آذار، ولكن بعد ذلك سيكون حراً لبيان رأيه وتمثيله للشعب الكردي وقال بإنه في حال إصدار بيان ضده فإنه يضطر لإعلان النقاط الست التي سبق أن طالب بها الملا مصطفى ثم قال إنه مستعد للذهاب إلى الشمال إذا تسلم من الملا وبخط يده بإنه سوف ينفذ النقاط الست ويحافظ على كرامته..
وكان متأثراً جداً ومتأذياً وقد أوصلته حالته هذه إلى عدم التفكير بإسلوب عملي وصحيح كان عزيز يؤكد بأستمرار على أن رأس المفتاح لدى البارزاني فلم لا يعمل لإصلاح الوضع، كما بين إنه فعلاً مستاء ويائس من أن يحصل أي إصلاح..
لقد كانت آراؤنا جميعها هي إنه من الأفضل أن تبحث النواقص ونحن نؤيده ونذهب معه ثم يرجع كذلك الأفضل للحركة الكردية أن لا تتخذ أي إجراء ضدهم إذا ما أمتنعوا من قبول ذلك المقترح على كل الوضع معقد، ويمكن أن يسافر محمد محمود وعلي عبد الله دون جدوى..
الخميس.. زارني عزيز عقراوي مع دارا توفيق وشوكت عقراوي ومحسن دزه يي تباحثنا على موضوع ذهابهم ولكنه لم يقتنع ويرى أن يرسل برسالة يبين فيها إنه مستعد للذهاب إلى أي مكان خارج العراق ويمكن أن يكون ذلك أحسن لإن ذهابهم كما يرون لا يفيد..
سيسافر دارا توفيق غداً إلى الشمال وقد أوصيته بإن تكون قراراتهم متسمة بالتعقل والواقعية ويعملوا لاصلاح الوضع..(4))).
كان المقدم عزيز عقراوي خلال تلك الفترة يبيت في منزلنا في غرفة الضيوف في بغداد ولعدة أيام، وكنا نعتبرهُ كعم لنا حيث كنا مع صداقة عائلية معهم، وقد حاول والدي كثيراً من إقناعهُ بالعدول عن رأيه في تلك الظروف العصيبة، ولكن المقدم عزيز عقراوي يبدو كان مصراً على رأيهُ وإنهُ كان متأثراً جداً حينها..! حسب ما سمعتهُ من والدتي..
ويذكر الكاتب والباحث الأستاذ مير عقراوي: ((حدثت خلافات حادة بين العضو القيادي البارز المعروف المرحوم عزيز عقراوي والسيد مسعود البارزاني، حيث أنتهت الخلافات بترك عزيز عقراوي الحزب الديمقراطي الكوردستاني نهائياً في عام 1974.. وفي هذا العام غادر عزيز عقراوي أقليم كردستان متوجهاً إلى بغداد، حيث أقام فترة ضيفاً عند الشهيد صالح اليوسفي القيادي المعروف في الحزب الديمقراطي الكردستاني، ويُذكر إن الرئيس مصطفى البارزاني حاول من خلال رسالة ومبعوث لهُ إلى عزيز عقراوي أن يسترضيه، لكنهُ أبى وأصرّ على موقفه الرافض العمل مرة أخرى في صفوف الحزب..(5))).
ونقلاً عن الأستاذ هارون محمد: (( لاحت بوادر الحرب من جديد بين حزب البعث الحاكم وحزب الديمقراطي الكردستاني وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1974 بذل صدام جهوداً مكثفة لشق حزب الديمقراطي الكردستاني وأستمالة عناصر قيادية منه إلى جانبه ضد البارزاني وركز على اليوسفي بالذات بعد أن نجح في كسب أثنين من قيادات الحزب هما عزيز عقراوي عضو المكتب السياسي للحزب وهاشم عقراوي عضو اللجنة المركزية ولكن اليوسفي الصادق مع نفسه ومع مبادئه رد على (نعيم حداد) القطب البعثي، عندما فاتحه بالإنشقاق عن الحزب البارتي وتعينه بأي منصب وزاري يختاره، رد اليوسفي بجرأته المعهودة: (( كاكه نعيم.. البعثيون رفاقك يقولون أنك من أصول غير عراقية وعربية، وبصراحة يتهمونك بأنك أحوازي إيراني، وأنت عضو في مجلس قيادة الثورة وقيادة القطرية للحزب.. فماذا سيقولون عني إذا خنت حزبي ومبادئي.. وأنا المعروف بأنني كردي أبا عن جد.. وهنا لزم نعيم حداد الصمت..(5))).
الجريدة التي نشرت تفاصيل إنشقاق عزيز وهاشم عقراوي وأسماعيل عزيز بمانشيت عريض وعلى صفحتها الأولى (إنشقاق خطير داخل الحزب الديمقراطي الكوردستاني) كانت جريدة الراصد الأسبوعية، كان رئيس تحريرها هاني الفكيكي، وهي من جرائد السلطة آنذاك... يتبع
المصادر والهوامش:
(1-2)البارزاني والحركة التحررية الكردية الجزء الثالث - مسعود البارزاني - ص 844، 845، 846
(3)سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي - ص 341
(4)جريدة الزمان الدولية العدد 4296 التاريخ 5/9/2012
(5)محنة الديمقراطية في حزب البارزاني - الجزء الرابع - مير عقراوي - كاتب في الشؤون الإسلامية والكردستانية.
(6)هارون محمد - الكوردي الصوفي الذي قتلهُ بطرد بريدي ملغوم - 18/ 10/ 2003