الحلقة: الثالثة والخمسون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أحداث ما بين عامي 1971 و 1972
خلال هذه الفترة ظل صدام يقوي من مركزه ويفرض آرائه وأقتراحاته ويخطط وينفذ كل ما يرغب به، ويحاول إزاحة كل مَن يقف في طريقه أو لهُ شعبية لدى الجماهير، وكأن العراق يحكمها رئيسان البكر وصدام..! فبعد أغتيال حردان التكريتي في الكويت، حدثت عدة تغيرات ومفاجأت على الساحة السياسية العراقية في بدايات السبعينيات، حيث قرار تنحية كل من صالح مهدي عماش (نائب الرئيس ووزير الدفاع)، وعبد الكريم الشيخلي (وزير الخارجية) في أيلول/ سبتمبر 1971، وأعتقال فؤاد الركابي (من مؤوسسي القيادة القطرية لحزب البعث في العراق، وقتل في السجن أثر طعنة بالسكين في نفس العام).
تأثر والدي لتنحية النائب (صالح مهدي عماش) حيث كان من الداعين الأوائل لحل القضية الكوردية منذ إنقلاب 1968 حلاً سلمياً، وقد ذكرت في الحلقات السابقة عن مفاوضاته مع الوفد الكوردي ومع والدي، ولولا تفجير أنابيب نفط كركوك عام 1969 لكانت أتفاقية آذار للسلام قد حدثت منذ ذلك الحين ولما نشبت حرب عام 1969، كما كانت هناك شخصيات أخرى تساند الأتفاقية وحل القضية الكوردية سلمياً وعلى رأسهم عبد الخالق السامرائي ومرتضى الحديثي وشاذل طاقة وآخرين..
بدأ صدام يخشى أعضاء القيادة الكوردية وأعضاء حزبه، ونقلاً عن الأستاذ جلال طالباني: ((حدثني فؤاد عارف أن صدام أرسل بطلبه وقال له أريدك أن تذهب إلى الملا مصطفى، فأجبته ولكن أنتم لكم علاقة بجماعة الحزب..! فقال أي جماعة..؟! هؤلاء أخطر من الملا مصطفى، الملا لا يتحدث عن الحكم الذاتي، ولكن هؤلاء لا يرضون حتى بالحكم الذاتي.. بل يتحدثون عن الفدرالية(1))).
خلال ذكرى أتفاقية 11 آذار/ مارس، أقيمت حفلة كبيرة على مسرح قاعة الخلد في بغداد تحت راية: (لنتخذ من الذكرى حافزاً لترسيخ الوحدة الوطنية)، حضره عدة شخصيات كوردية وعربية وكان على رأس الحضور صالح اليوسفي ونعيم حداد ومكرم الطالباني، وألقى صالح اليوسفي كلمة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وألقي نعيم حداد كلمة حزب البعث، وألقى مكرم الطالباني كلمة الحزب الشيوعي، وأشار اليوسفي في خطابه: (( إلى رص الصفوف ووحدة الكلمة والعمل الدؤوب من أجل تعميق وترسيخ قاعدة الأستقرار السليم والتآخي القومي والتضامن الوطني... وأنتزاع العِبر وأستخلاص التجارب الغنية من المآسي والمحن التي قاسيناها وألحقت بنا أفدح الأضرار الأمر الذي كان يطرب له جميع أعداء الشعب... إن أتفاقية آذار حصيلة جهود مضنية ونظرة مضيئة لقد كانت من طبيعة هذه الوثيقة التاريخية أن تبشر بزوال حساسيات الماضي المرير وشكوكه وترسباته العفنة وما تخلله من محن ومآسي وما ولده من أحقاد وتمزق وضغائن وتبديد الأوضاع الأستثنائية التي عملت على إعاقة مسيرة بلادنا وشل قدرته وتعطيل مشاريعها العمرانية والإنتاجية وتجسيد طاقتها الدفاعية فخلقت كل الظروف والشروط الموضوعية لإطلاق الكثير من الطاقات في الإعمار والبناء والإنتاج....(2))).
أتفاقيات آذار التاريخية وردودها الخارجية..
كانت لأتفاقية 11 آذار التاريخية العديد من الردود والنتائج الإيجابية للكورد حتى على الصعيد الأقليمي الذي يشملهم خارج العراق، ففي لبنان قررت حكومة (صائب سلام) بمنح زهاء 23000 كوردي لبناني من الطالبين للجنسية اللبنانية بعد عدة سنوات من طلبهم هذا.. وقد نشرت جريدة التآخي مقالاً مفصلاً عن ذلك، ومن جهة أخرى أقرّ حزب العمال التركي بوجود الشعب الكوردي في شرق تركيا، ففي المؤتمر الرابع للحزب العمال التركي، أقر بحقوق الشعب الكوردي الدستوري وبحق الديمقراطية ونبذ الشوفينية وإن نضال الشعب الكورد واجباً ثورياً وأعتيادي ومن حقهم...
رحيل المناضلين نافذ جلال ونعمان عيسى..
خلال عام 1972 تلقى والدي نبأين تأثر بهما أسفاً وحزناً وذلك برحيل رفيقين لهُ من رفاق النضال، المناضل الأول نافذ جلال حويزي.. وهو من الشخصيات البارزة في الحركة التحررية الكوردية منذ بدايات ستينيات القرن الماضي وخلال ثورة أيلول 1961، وكان قبل ألتحاقه من الضباط الأكفاء في الجيش العراقي، وتدرج في مناصبه ولعب دوراً بارزاً في الثورة الكوردية إلى أن أصبح عضو في اللجنة المركزية للحزب، وكان ضمن الوفود المفاوضة منذ حكومة عبد الرحمن البزاز 1966، وكذلك كان ضمن الوفد المشارك في أتفاقية 11 آذار/ مارس 1970، وكان من ضمن الوزراء الخمسة المرشحين من البارتي، وأسند إليه منصب وزير الزراعة بالإضافة إلى عضويته في المجلس الوطني للسلم والتضامن في الجمهورية العراقية، وقد قام بعدة نشاطات في فترة الوزارة وشارك في عدة مؤتمرات عربية وأجنبية، وفي أحد الأيام أذيع عبر الأخبار عن الحادثة المفجعة التي تعرض لها المناضل نافذ جلال أثر أصطدام سيارته في الطريق ما بين كركوك أربيل وأصابته بجروح بالغة نُقل على أثرها إلى مستشفى كركوك ثم بغداد حيث وافاهُ الأجل متأثراً بجراحه البليغة، وفي يوم 10 تموز/ يوليو 1972 نُقل جثمانه إلى مسقط رأسه في كويسنجق في تشييع مهيب، وأعتبر والدي رحيل نافذ جلال خسارة كبيرة للحركة الوطنية الكوردية وللحركة الديمقراطية في العراق.
المناضل الثاني الذي تأثر والدي لرحيله كان الأستاذ نعمان عيسى (قائم مقام قضاء راوندوز) الذي توفي في آب / أغسطس 1972، وكان من المناضلين والمقربين لوالدي وإلى عائلتنا، وزوجته هي المناضلة فاطمة أسعد شاهين(3)، بعد أتفاقية 11 آذار، تسنم (نعمان عيسى) منصب قائم مقام قضاء راوندوز، وسبب وفاة المناضل نعمان عيسى كانت أثر وشاية، حيث ذكر شهود عيان أن السيد نعمان كان في أحد الأيام في نادي راوندوز برفقة أصدقاء، حين وصله كتاب إحالته على التقاعد وتحت عنوان مثير للدهشة حيث جاء في الكتاب (إحالة نعمان عيسى بنجي) على التقاعد..! فتفاجأ السيد نعمان وتأثر وفي الحال أصيب بجلطة دماغية أدت إلى وفاته، وقد حزن والدي عند تلقيه خبر وفاة رفيقه المناضل نعمان عيسى، خاصة كنا في ضيافتهم في راوندوز وقبل وفاته بشهر، وغضب والدي حين علِم بأنها كانت وشاية الغرض منها إزاحته وذلك طمعاً بمنصبه.
مواقف للشهيد المناضل صالح اليوسفي..
في عام 1972 قام والدي بالسفر إلى جيكوسلوفاكيا للعلاج جراء معاناته من آلام الظهر نتيجة التعذيب الوحشي في السجن 1963- 1964، ونقلاً عن المناضل محسن دز ه يي: (( كان الشهيد الخالد اليوسفي مثالاً للتواضع وطيبة القلب، جريئاً وصريحاً في حديثه، كان إنسانا أميناً ونزيهاً جداً ))، وأورَد الأستاذ محسن دزه ي مثالاً على نزاهة والدي قائلاً: ((كنت سفيراً للعراق لدى جيكوسلوفاكيا في براغ، وفي صيف 1972 بعد تأميم شركات النفط العراقية بأسابيع قليلة زار اليوسفي براغ مع السيدة الفاضلة عقيلته وذلك للعلاج، وكانت الحكومة العراقية قد أصدرت حينها تعليمات للتقشف بسبب التأميم، ولم يكن يُسمح للمسافر إلى خارج العراق سوى بتحويل ما قيمته مبلغ مائة دينار إلى العملة الصعبة، فوصل براغ السيد اليوسفي وزوجته وهم لا يحملون أكثر من المبلغ المذكور، دون أن يتنازل هو بالسؤال للسماح لهُ بمبلغ إضافي تَسّد نفقات سفره وذلك أستثناءً من القرار المذكور كما كان يفعله كل أصحاب المناصب والنفوذ وكبار المسؤولين من البعثيين وغيرهم وأيضاً دون أن يحمل معهُ أي مبلغ إضافي لأنه أساساً لم يكن معرضاً للتفتيش شأنه شأن الآخرين من ذوي المناصب العليا وبذلك كان يُطبق التعليمات بحذافيرها، وبعد بضعة أيام نَفَذَ ما معهُ من المال فأضطررت إلى أقراضه المبالغ اللازمة لسدّ نفقات إقامته وسفره وعلى أن يرجعها لي لاحقاً، هذا مثال على نزاهته وطيبته)).
يذكر السيد أحمد زنكنة: (يوم ﻻ أنساهُ ابداً.. ذكرياتي مع الأستاذ صالح اليوسفي.. الشهيد البطل الغائب الحاضر ): في عام (1971) عندما قمنا بعرض مسرحية (كاوه الحداد) من إخراج الفنان مهدي أميد في قضاء (جمجمال) بمناسبة عيد نوروز وبرعاية وحضور الأستاذ صالح اليوسفي، وعند حضورهِ ألقى كلمة قيمة، ومن ثم عرضنا المسرحية، وكان دوري في المسرحية كاوه البطل، وكان دور الضحاك السفاح من نصيب الأستاذ (بايز الطالباني) وزير المالية السابق، فجأة هطلت أمطار غزيرة..! وطلبنا من الأستاذ صالح اليوسفي التأجيل خوفاً على صحته، ولكن اليوسفي طلب الرجاء بعرض المسرحية..
وقال اليوسفي: إنه يوم تأريخي ﻻ يحتمل التأجيل ﻻ يهمني المطر مادام مايعرض هو تاريخ شعبي.
أستمد الجمهور العزم من اليوسفي وبقوا تحت المطر وعرضت المسرحية تحت المطر..! وحين خف المطر أنتهت المسرحية وطلب اليوسفي لقائي وقال لي: كان دورك جيداً وقمت بما فيه الكفاية من الأبداع..!
وقلت: سيدي أستمدتُ العزم والقوة منكَ لمتابعة مسرحيتنا، ثم شكر اليوسفي الفنان المبدع مهدي أميد على الإخراج الرائع.
يذكر الأستاذ فهمي علي: (( أول لقاء لی مع الشهید صالح اليوسفي، عندما كنت طالباً فی معهد إعداد المعلمین سنه 1972 فی أربیل، حینها كان فی العراق ثلاث معاهد للمعلمین إحدها في بغداد، والآخر في البصرة، والثالث فی أربیل، وكان معهد أربيل هو الوحيد في كوردستان والدراسة فيه كانت باللغة الكوردية، زارنا حينها الشهيد صالح اليوسفي وسامي عبد الرحمن، وبالرغم من إحاطتهم بالحراس..! إلا أنني تمكنت من الأقتراب من سه يدا صالح اليوسفي، فالتفت اليوسفي إليَّ يسألني قائلاً: ها أبنی مالذی ترید قوله..؟
قلت لهُ: نحن طلبة المعهد أتینا من مناطق بعيدة من كوردستان، وندرس علی حسابنا الخاص، فوعدنی بأنه سیحاول منحنا مخصصات دراسیة، وفعلا لم تمر سوى أیام معدودة حتى جاءت الموافقه بأعطائنا سلف دراسیة طیلة فترة دراستنا فی المعهد والتی كانت حينها ثلاثة عشر دینارا شهرياً...)).
يذكر الأستاذ الفاضل أبو أسامة: ((في بدايات السبعينيات زارنا المناضل صالح اليوسفي على رأس وفد إلى سنجار طلب أن يلتقي بوالدي فقابلته مع والدي، وكان لي الشرف عظيم..
قال لوالدي: ماهي إحتياجاتكم..؟
فرد والدي: نريد الحفاظ على نفسك.. لأننا نخاف عليك...إنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه، الرحمة لك يا شهيدي يا قرة عيني.. كنت لا تعرف الكلل والملل لتحرير شعبك من الإضطهاد، ضحيت بروحك الطاهرة ياشهيدي، إنك كفيت ووفيت يرحمك الله ويسكنك فسيح جناته..))... يتبع
المصادر والهوامش:
(1)من مذكرات مام جلال - حوار العمر - إعداد صلاح رشيد ترجمة - شيرزاد شيخاني
(2)مقتطفات من خطاب المناضل صالح اليوسفي بمناسبة ذكرى أتفاقية 11 آذار – جريدة الثورة العدد 1083
(3)فاطمة أسعد شاهين هي إمرأة مناضلة من مناضلات نساء الكورد التي إنظمت مع زوجها نعمان عيسى إلى صفوف النضال، منذ أربعينيات القرن الماضي، وقد كُلفت السيدة فاطمة شخصياً من قِبل الزعيم قاضي محمد لتقوم بخياطة وتطريز العلم الكوردي لجمهورية مهاباد عام 1946، كما ولها بطولات ومواقف شُجاعة في القتال وحمل السلاح، وكانت تتحدث لنا عمتي أسماء عن شجاعتها الفائقة، حين كانت برفقتها في المناطق الجبلية أيام الثورة خلال عامي 1965- 1966.