الحلقة: الثالثة والثمانون - الجزء الثامن من أتفاقية 6 آذار 1975
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
يوميات ومشاهد حية من أتفاقية 6 آذار..(2)
يذكر المناضل شكيب عقراوي: (( أن المرحوم أسعد خوشفي وبعض معاونيه والمسؤولين العسكريين في منطقة دهوك والعمادية وأرسلوا برقية للبارزاني بأنه يمكن الأستمرار في المقاومة وأن الشعب يريد الدفاع عن نفسه وأن النسوة أيضاً يعرضن أستعدادهن للمقاومة والقتال..(1))). ويضيف الأستاذ شكيب: عندما عقد الأتفاق بين العراق وإيران في 6 آذار/ مارس 1975 فأن موقف العراق كان ضعيفاً وأن الخسائر الجسيمة التي تكبدها الجيش العراقي في الحرب الكردية هي التي رفعت إلى تنازل العراق لإيران، ولو كان بإمكان قوات الثورة الكردية الصمود والإستمرار في القتال لمدة ستة أخرى لربما أضطرت الحكومة العراقية إلى وقف القتال وأستئناف المفاوضات مع قيادة الثورة الكوردية (2))).
يذكر المناضل علي سنجاري: (( بتاريخ 10/3/1975بعثت قيادة التجمع الوطني ببرقية مستعجلة إلى المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني عن طريق لشكر 1 (الفرقة الأولى) المرحوم أسعد خوشفي جاء فيها: (بأن الحكومة السورية وقيادة حزب البعث السوري على أستعداد لتقديم الدعم لكم وفتح الحدود أمامكم إذا قررتم الأستمرار في الثورة) وأستقبلت تلك المبادرة بالإستحسان والتقدير وعندما تقرر الأستمرار في الثورة... ليلة 11- 12/ 3/ 1975 تقرر الأستفادة من الموقف السوري الإيجابي هذا وإرسال مندوب للحزب والثورة إلى دمشق.. وتم أختياري لهذه المهمة بأعتباري مسؤولاً عن العلاقات مع قيادة قطر العراق لحزب البعث في سورية ومع التجمع الوطني العراقي إلا أنني كنت مسؤولاً عن جبهة خانقين للحزب والثورة، فقد تقرر إرسال كل من صالح اليوسفي ودارا توفيق إلى دمشق للتنسيق مع سورية(3))).
ويضيف الأستاذ علي سنجاري قائلاً:(( في صباح يوم 16/ 3/ 1975 تم عقد الإجتماع في مقر الفرع الخامس للحزب في قرية (محمود قجر(4) بالقرب من مدينة قصر شرين الإيرانية) وشرحت تفاصيل أتفاقية الجزائر.. وقرار قيادة الثورة بمواصلة النضال بدون مساعدات إيران.. كان الجميع يؤيدون قرار الأستمرار في الثورة.. فقمنا بتشكيل لجنة لشراء الأرزاق وخزنه في منطقة جبال (به مو) الحصينة الواقعة تحت سيطرة الثورة.. في يوم 17 آذار عقدنا أجتماعاً عسكرياً حضره زهاء ألف پيشمرگة.. وشرحت لهم قرار قيادة الحزب والثورة للأستمرار في المقاومة. وقرار تخفيض عدد الپيشمرگة في المرحلة المقبلة للثورة وعدم إمكانية توفير المستلزمات الضرورية لإعداد كبيرة من المقاتلين كالسابق.. وعلى كبار السن والمرضى وأصحاب العوائل الموجودين في معسكرات اللجوء بأن ينتقلوا إلى تلك المعسكرات.. وبعد أنتهائي من إلقاء كلمتي.. نهض أحد الپيشمرگة المسنين وقال: يا كاك علي.. أننا عندما قمنا بالثورة لم نعتمد على شاه إيران وغيره من دول الجوار وهي جميعاً ضد الكورد.. بل ألتحقنا بالثورة ومعنا سلاحنا وحقيبة الخبز اليابس.. وها أنك تقول بأن الثورة لا تستطيع تقديم المساعدات المالية والمواد الغذائية والألبسة وغيرها بعد الآن.. فلماذا تحرموننا من الإستمرار في المشاركة بالثورة.. وإن السلاح وغيره موجود في معسكرات الجيش العراقي.. بإمكاننا الحصول عليه كما كنا نحصل في السابق.. وفي نهاية هذا اللقاء لم يوافق أحد من الپيشمرگة على ترك الثورة، وكانوا زهاء 2500 پيشمرگة في قوة خانقين بالإضافة إلى 350 كادر حزبي وبضمنهم منظمات الطلبة والنساء والشبيبة الكوردستان.. كانت هذه مواقف الپيشمرگة المناضلين وأبناء الشعب الكوردي من قرار الثورة بأستمرار القتال..).
بعد نشر نبأ قرار قيادة الثورة الكوردية للإستمرار في الكفاح المسلح، ووصول الخبر إلى الحكومة العراقية التي أزعجها النبأ جداً حيث عقدت القيادة القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة إجتماعاً طارئاً، وتدارسوا الموضوع بإهتمام بالغ لأن أستمرار القتال يعني لم يبق أهمية لإتفاقية الجزائر.. والغاية الحقيقية منها وهي القضاء على الثورة الكوردية.. وطلبت القيادة القطرية من صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الذي وقع على أتفاقية الجزائر بأسم العراق أن يتصل مع شاه إيران ويبلغه قلق الحكومة العراقية من قرار القيادة الكوردية من أستمرار القتال ضد قوات العراق ونوه صدام في أتصاله مع الشاه بأن العراق غير مستعد لتنفيذ بنود أتفاقية الجزائر والبارزاني مستمر في ثورته..
فأخبر شاه إيران وزير خارجية العراق بأنه سيبذل كافة الجهود لإقناع البارزاني لإيقاف ثورته والإنسحاب من إيران.. وأتصل الشاه بهنري كيسنجر.. وشرح له بأن البارزاني قد قرر مواصلة القتال ضد الحكومة العراقية، وذكر بأن صدام لا يستطيع الألتزام بأتفاقية الجزائر في حالة أستمرار البارزاني في قتال القوات العراقية، وطلب الشاه من كيسنجر التنسيق معه لإقناع البارزاني للعدول عن قراره في مواصلة ثورته والعمل معاً على إنسحاب البارزاني وقواته إلى إيران تنفيذاً لتطبيق بنود أتفاقية الجزائر مع الحكومة العراقية.. فوعد كيسنجر شاه إيران لإقناع البارزاني بإيقاف نشاطه المسلح والإنسحاب إلى إيران(5))).
في مساء 20-21/3/1975قطعت إذاعة صوت كوردستان المركزية برامجها قائلة بأنها ستتوقف عن البث لأسباب قاهرة.. وفي نفس الوقت وصلت برقية مشتركة من مقر البارزاني والمكتب السياسي والمكتب التنفيذي بأن الثورة قد تعرضت إلى مؤامرة دولية بات من المستحيل الإستمرار في الثورة... الخ(6))).
يذكر المناضل علي سنجاري: (( كان يجب أن تستمر الثورة مهما كان حجم المؤامرة، لأن الثورة كانت تمتلك الإمكانيات المادية والعسكرية التي تكفي لمواصلة النضال الثوري لعدة سنوات بعيدًا عن دعم شاه إيران، والشعب الكوردي كان مستعداً للتضحية وتقديم الدعم والقرابين على مذبح حريته وكرامته وتقرير مصيره بنفسه )).
نقلاً عن المناضل عبد الوهاب الطالباني: (( قلعة دمدم أخرى تحترق.. كما دونتها في ذاكرة الأيام للفترة التي كنت أعمل فيها في إذاعة صوت كوردستان.. إن ما حدث في تلك الأيام السوداء في جنوب كوردستان كان بمثابة (قلعة دمدم) أخرى أحرقها الطغاة والأعداء التقليديون للإمة الكوردية... أن اتفاقية الجزائر كانت بالنسبة لنا كارثة قومية كوردية كبيرة، ومأساة إنسانية لا تنسى، وبأستثناء بعض الآراء الشخصية لقلة قليلة من الخيرين الاوروبيين والعرب الذين كان ما زال في دواخلهم شيء من الضمير الحي، فقد كان الكل تقريباً مشاركين في (مهرجان) ذبح الأمل الكوردي.. وعلى ما أتذكر على النطاق الإعلامي كان التعليق الوحيد الذي شارك الكورد مصابهم وعرض للتراجيديا بصورة إنسانية كان من إذاعة (مونت كارلو) لمذيع عربي حيث قدم لخبر التوقيع على أتفاقية الغدر في الجزائر بمقدمة مؤثرة عن المظالم التي لحقت بالكورد طيلة تأريخهم.
وبالنسبة لنا نحن الذين كنا نعمل في تلك الإذاعة السرية الكوردية المنفية على الحدود الدولية بين إيران والعراق في منطقة قريبة من خانقين في قرية محمود قجر، وبعد سماع الأخبار وتداعياتها في العراق وفي إيران من الإذاعات العالمية، لم نتوقف عن البث وحاولنا الأتصال بمركزنا في (جومان) فلم نفلح، وعندما حاولنا الحصول على أي توجيه من التنظيم الحزبي، لم نوفق في إيجاد أي من عناصره، لذلك قررنا الاستمرار، على الرغم من ان الأسى والألم وترقب المجهول كان يخنقنا، أستمرينا في إذاعة التعليقات الداعية إلى رفع الهمم دون الدخول في أية تفاصيل لأصل الموضوع وأقصد أتفاقية الجزائر، أستمر الحال هكذا لمدة ثلاثة أيام متجاهلين توقف إذاعتنا المركزية في جومان وضاربين عرض الحائط كل الكم الهائل من الأخبار المرعبة التي كانت إذاعات العالم تذيعها عن أبعاد الجريمة النكراء ونحن بعيدون عن مركز الحدث في ذلك الصقع البعيد من أطراف (كه رميان)، وقد أتخذنا هذا القرار ليس وفق دراسة أو مخطط أو طلب من جهة ما، بل على الأكثر بقرار من فريق الإذاعة فقط، وكرد فعل لوضعنا النفسي الرافض لفكرة أن تنتكس حركتنا الثورية بهذه السرعة الغريبة، إلا أنه وفي غروب اليوم الثالث من بثنا غير الرسمي، رأينا أحد ضباط المخابرات الإيرانية وكان أسمه (كمالي) وإمرأة قيل أنها كانت زوجته وتعمل معه في المخابرات الإيرانية يعبران النهر نحونا بسيارة جيب كانت معروفة عندنا حيث كان الماء ضحلا يومها، وبعد السلام طلب منا الضابط الايراني وكان يحاول أن يكون مؤدباً في كلامه راسماً أبتسامة باهتة على شفتيه، حيث لم أدر إن كانت أبتسامة شماتة أو فقط لإظهار شيء من اللياقة، طلب منا أن نوقف البث في الاذاعة، قلنا له بأننا أولاً لم نستلم أي أمر رسمي من قيادتنا بوقف الإذاعة وثانياً نحن داخل الأراضي العراقية ولسنا داخل الأراضي الايرانية، حينها أخرج ورقة من جيبه وقال: هذا هو الأمر الذي يقول لكم أوقفوها، وكان فيه جملة واحدة باللغة الكوردية تطلب إيقاف الإذاعة وأن لا نعرض أنفسنا إلى مشاكل، وكانت البرقية من مصدر كوردستاني كان علينا أحترامه، ولكن لا أدري إن كانت البرقية من صنع المخابرات الإيرانية أم إنها كانت حقيقة صادرة من ذلك المصدر الكوردستاني حسب أسم المصدر وتوقيعه الذي كان معروفاً لدينا.. ولكن لم نجد غير التصديق بالمصدر الذي كان قد وقع على الأمر. وقال لنا الضابط الايراني: السلاح الذي تملكونه أصبح لنا.. أي لإيران.. والإذاعة سنفككها وسنأخذها.. وأنتم أما تقبلوا ضيافتنا في إيران أو سأرافقكم إلى ربايا الجيش العراقي مشيراً بيده صوب ربايا (بنه باريكة) وأضاف: وأن عفواً عاماً صدر عنكم فلا خوف عليكم أبداً..!
ولا يفوتني هنا إلا أن أشيد بكل الطاقم الذي كان يعمل في الإذاعة وأخص بالذكر الشاب الخانقيني (رمضان) الطيب الذي عمل كطباخ، وأن أشيد بوطنيته الصادقة وبشخصيته المرحة جداً وتفانيه في خدمة شؤون الاذاعة في كل المجالات وليس الطبخ فقط، فقد كان صديقا وبيشمركة وطباخاً . ولا أستطيع أن أنسى دموعه الغزيرة التي أنهمرت من عينيه عندما فهم أبعاد المؤامرة الغادرة، وما زلت أذكر مغادرته للمقر وهو يقبلنا ويقول وهو يجهش في البكاء: أنني الآن وحيد حقاً ويتيم.. وكأنه كان ينطق بلساننا جميعاً..(7)))... يتبع
المصادر والهوامش:
(1)سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي - ص 416
(2)سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي - ص 425
(3)علي سنجاري - القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق الجزء الأول،- ص 68.
(4)قرية محمود قجر: هي إحدى قرى ناحية قوره تو إحدى نواحي قضاء خانقين، ضمن الحدود الإدارية لمحافظة السليمانية ضمن مناطق إدارة كرميان في أقليم كوردستان العراق.
(5،6)علي سنجاري - القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق الجزء الأول،- ص 71
(7) مقالة للأستاذ عبد الوهاب الطالباني - ماذا حدث لنا في هضبات (گه رميان) في يوم الإنتكاسة المشؤومة 6/3/1975