الحلقة: الثالثة والثلاثون - الجزء الثالث
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسف
مذكرة الأستاذ صالح اليوسفي إلى الرئيس عبد الرحمن عارف..
كانت سياسة الرئيس عبد الرحمن عارف ورئيس وزرائه عبد الرحمن البزاز ضعيفة إلى حد ما في حل معضلات البلاد بصورة عامة والقضية الكوردية بصورة خاصة، وظلت بنود بيان أتفاقية 29 حزيران 1966 لم تتحقق كل بنودها..!
من جهة كان هناك الجناح العسكري الذي كان ضد حل القضية الكوردية وضد بنود بيان أتفاقية 29 حزيران 1966، حيث فوجئت الحكومة في يوم 30 حزيران/ يونيو 1966 بمحاولة إنقلابية قام بها عميد الجو (عارف عبد الرزاق) وعدد من أعوانه، وكانت أنباء قد ذكرت أن بعض ضباط الجيش العراقي أستاءوا من مشروع حكومة البزاز لتسوية المشكلة الكردية ووقف الحرب الدائرة في شمال العراق، التي بموجبه أعترفت حكومة العراق بالقومية الكردية في الدستور المؤقت... وتم القضاء على المحاولة الإنقلابية وتم أعتقال عارف عبد الرزاق في مطار الموصل(1).
من جهة ثانية كان يواجه حكم عبد الرحمن عارف أحزاب رئيسية في العراق، وهم حزب البعث العربي الأشتراكي، الحزب الشيوعي العراقي، جماعة القوميين الموالين لجمال عبد الناصر، أما الأكراد فكان هناك الحزب الديمقراطي الكوردستاني الحزب الكوردي المتنفذ الأول.. إضاف إلى الجماعة المنشقة عنها (الأستاذ أبراهيم أحمد وجلال الطالباني) الذين كانوا هم أيضاً يطالبون أيضاً بحصتهم في الحكم.. وقد ذكر الأستاذ جلال الطالباني تفاصيل ذلك من خلال مذكراته(2).
عثرت على مذكرة لوالدي للرئيس عبد الرحمن عارف من خلال أرشيفه، مطبوعة.. معنونة إلى (السيد رئيس الجمهورية الفريق عبد الرحمن محمد عارف..) ومختومة بأسم صالح اليوسفي رئيس تحرير جريدة التآخي بغداد - وبتاريخ 25 أيار / 1968 ، أقدم للقراء الأعزاء في هذه الحلقة نص مذكرة والدي إلى الرئيس عبد الرحمن عارف..
المذكرة واضحة جداً من خلال محتواها وتجيب على كل الأسئلة عن تلك الفترة والمرحلة، وعن المشاكل التي كانت تواجه النظام.. كما وإنها رد إلى كل الحاقدين الذين أشرت إليهم خلال حلقتي الماضية..
نرى من خلال المذكرة أن والدي كان يبحث عن الحلول الجذرية ويشير إلى كل المعضلات في الوطن وإيجاد الحلول لها بالتي هي أحسن.. وكما هو معهود دائماً عند كتابات ومذكرات اليوسفي الجريئة.. فإنها أقل ما توصف به إنه لم يسبق أن قام زعيم سياسي عراقي في تاريخ العراق الحديث بإرسال مذكرات جريئة للحكام العراقيين.. مثلما قام بها صالح اليوسفي وعلى مدى سنوات نضاله التي واجهت كل الأنظمة والرؤساء الذين حكموا العراق..
هذه نص رسالة اليوسفي إلى الرئيس عبد الرحمن عارف:
السيد رئيس الجمهورية الفريق عبد الرحمن محمد عارف المحترم
تحية وأحتراما
نظرا لما نلمسه من تتبع مجريات تفاقم الأحداث وتوتر الأوضاع وتعقيد المشاكل سيما في الاّونة الأخيرة . ونخص بالذكر القضية الكردية نرى من المفيد والمصلحة مكاشفة سيادتكم بها وتقصي الأسباب الحقيقية لتأزمها وأخطارها التي تكاد أن تمتد إلى كل زاوية من نواحي حياة الشعب العراقي وما تحتمه المصلحة العامة من ضرورة إتخاذ الإجراءات السريعة لمعالجتها بالتي هي أحسن .
مع العلم أننا على أتم الأستعداد للتعاون والتآزر معكم ومع السلطة في أي بادرة إيجابية تنقذ الحكم من أزمته الراهنة والبلاد من محنتها ونتوخى منها مصلحة الشعب. وفي أعتقادنا إن أسباب تردي الوضع العام تعود بالدرجة الأولى إلى تنحل حكام ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة عن ألتزاماتهم في تحقيق مبادئها وأهدافها ومكاسبها الشعبية التي تؤكد على وجوب إقامة حكم ديموقراطي برلماني سليم ينبثق من الشعب ويعمل بوحي منه كما ورد جليا في بيانها الأول وإصرارهم بدلا من ذلك على التشبث بالأوضاع الأستثنائية وتعميقها وإدامتها للمحافظة على حكمهم وأستخدامها في نفس الوقت ضد الشعب وقواه الوطنية ومصالحه العليا وأمانيه في الحياة الحرة الكريمة.
ومن عمق هذه الأوضاع وديمومتها وما تخللتها من الرجات والهزات تمخضت أزمة الحكم وأستفحلت فدب فيه الإنحلال وأمتص منه الهيبة والثقة والإنسجام والقدرة على الشعور بالمسؤولية وتحمل أعبائها الحقيقة فأتسعت الهوة بينه وبين الشعب وأصبح تترصده شهوات المنتفعين وأهواء المتربصين.
وسوف يظل هذا الوضع الماثل المتردي على حالته المؤسفة الخطيرة فيما إذا لم تلتقطه النوايا الصادقة والتفهم الصحيح وتتناوله يد التغيير والعزم في إزالة تلك الأسباب وأستئصال تلك العوامل منه والتمسك بأهداب الثورة ومبادئها وأهدافها الحقيقية وخط سيرها الصحيح والركون إلى الشعب في إعداد وبناء حياة المجتمع الأمثل. ولا نقصد من نقدنا هذا أن ننحى باللائمة على العهد الحالي والحكومة الحالية بمفردها بل نشاركها في المسؤولية كل العهود والحكومات التي سبقتها في إبقاء مثل هذه الأوضاع والمساوئ .
ونقول للحقيقة والإنصاف إن عهدكم قد أقدم على بعض المواقف الإيجابية منها إيقاف عمليات الهجوم المسلح الذي تعرض له شعبنا المسالم عدة سنوات والتوصل بفضل الجهود المشتركة مع شعبنا وزعيمه البارزاني إلى الأتفاقية السلمية المعروفة ببيان 29/حزيران 1966 وما لاقاه من ترحيب وتعاطف شعبي منقطع النظير وعلى كافة المستويات في الداخل والخارج وكذا قيامه بتشريع قانون رقم 97 وبعض المواقف الأخرى. كما ونسجل للحكومة القائمة بأنها كانت أكثر تحمسا وإندفاعا من سابقتها بصدد تنفيذ إجزاء من البيان المذكور على الرغم مما رافق ذلك من الإتجاهات السلبية والخطيرة. ومع ذلك نسجل في نفس الوقت على عهدكم وعلى الحكومة الحاضرة نقدنا الموضوعي للإهمال المتعمد في تجميد القسم الأعظم من البيان وفي تشجيع إبقاء الأوضاع الأستثنائية المتوترة في المنطقة الكردية وأفتعال الأحداث والمشاكل فيها وأستخدام سياسة التفرقة وتحريض عناصر الإثارة والشغب بصورة مكشوفة وخلق مبررات واهية يطلقها بعض المسؤولين بين حين وآخر كحجة الإنقسام في صفوف الأكراد وردود فعل النزعات والمنحنات العشائرية وغيرها من الحجج المردودة التي تحول دون إكمال حل القضية حسب إدعاء قسم من الإخوان المسؤولين.
ومن الطبيعي أن التشبث بمثل هذه الأفكار الخاطئة وما تبنى عليها من النتائج والمضاعفات الخطيرة قد أسفرت من شل القضية وأختناق أنفاسها سيما في الآونة الأخيرة. كما ويلاحظ وجود عامل آخر يؤثر بدوره الخطير في تعقيد القضية وإلهابها يتمثل في الأدوار التحريضية والأستفزازية التي دأب عليها نفر من الحاقدين والمنتقصين والمغامرين وبعض الأقزام الذين يتقمصون البطولات الفارغة ويتجردون من كل شعور ديني ووطني وإنساني فينبذون الحل السلمي ويرفعون بصفاقة شعار المتاجرة بالدماء المسفوحة وطريق القمع والإبادة الجماعية بين الشعب والجيش لتحقيق أغراضهم الآثمة. نقول أن هذا النفر الضال يعمل من أجل خلق المشاكل وترصد الأحداث وإنتهاز الفرص للوثوب إلى ناصية الحكم. ولهم دور في ضعف السلطة وترددها وتخوفها من القيام بإعباء المسؤولية وعلى الأقل تجاوبها مع هذا النفر في إبقاء القضية عرضة للإهمال والتفاعلات الخطيرة .
ولهذا نجد من الضروري والمصلحة أن نرتقي شعبا وحكومة الى مستوى الأحداث ونشخص المعضلات ونعالجها بحكمة وتبصر وحزم وتكليس عوامل السوء والتحريض والفساد وعزلها عن مجريات الأمور نهائيا. فالعراق الذي هو وديعة غالية في أعناقنا عربا وأكرادا وأقليات أخرى لم ينعم بالأستقرار والعيش الرغيد منذ سنين عديدة. وإن أوخم حدث يهدد أمن البلاد ووحدة صفه الوطني وينخص عيشه ويضعضع جميع نواحي حياة الشعب العراقي عامة والشعب الكردي خاصة يكمن في تمييع القضية الكردية أو محاولة إثارتها والهابها مجددا وفق أهواء ومغامرات ومتاجرات غدت مفضوحة لدى الجميع.
إن جميع الأوساط الوطنية وكل حريص ومخلص لهذه البلاد يدرك أهمية هذه القضية وضرورة إتخاذ المبادرات السريعة في حلها كما ويفهمون جيداً مغزى الأخوة العربية الكردية ويقدرون أبعادها ويستوعبون ألتزاماتها الوطنية في بناء المجتمع الحديث في العراق وفي قدرتها على تذليل جميع المصاعب التي تواجه القضايا المصيرية وإنجازها على الوجه الأمثل إن تفهم هذه الشراكة والأخوة على حقيقتها وتجسيدها يكون الدعامة الأساسية في نهضة العراق وأزدهاره وبدونهما يظل الحكم يدور في حلقة مفرغة من الضعف والمغامرة تمتص منه كل مقوماته كدولة ذات سيادة ومسؤولية تجاه شعبها كما ويغدو المجتمع العراقي كسيحا يفقد معالم القدرة والحيوية في جميع نواحي حياته.
ولما كان سيادتكم المسؤول الأول في هذه الدولة فانكم بلا شك تتحملون المسؤولية الكبرى في إهمال تلك الألتزامات والمسؤوليات بصدد حقوق المواطنة لشعب تحكمون بأسمه وعهد قطعتموه على نفسكم لتنفيذ ما جاء في البيان مار الذكر وما ينجم عن تحقيقه من توطيد لدعائم الدولة على أرسخ القواعد والأسس التي تتحطم فوقها دسائس المغامرين والمنتفعين وأحلامهم السوداء. والبيان في حد ذاته يحتوي على أبسط الحقوق القومية التي تتبناها بأوسع إطارها أية دولة متعددة القوميات تتمسك بالديموقراطية نهجا ومذهبا. كما وإنه لا يقتصر على المطالبة بحقوق الشعب الكردي المشروعة بل يتحداها إلى مطاليب الشعب العراقي بإسره ويصر على إنهاء الأوضاع الأستثنائية وضرورة إرساء قواعد الحكم على أسس ديموقراطية دستورية طبقا لأهداف ومبادئ ثورة الرابع عشر من تموز المثبته في بيانها الأول وهو المنطلق الحقيقي لحل جميع معضلات البلاد ومنها حل المسألة القومية على أحسن وجه.
فإذا كان ثمة نفر يستكثر علينا هذه الحقوق وفي عصر تحرر الشعوب وأندحار الأمبريالية والفاشية والعنصرية بدافع الحرص والأخلاص الكاذبين وبحجة – أنه – يتضمن إنفصالا أو يكون قاعدة للإنفصال حسب أجتهاداتهم وأدعاءاتهم السقيمة المبنية على الغباء والضلال وروح الأستفزاز والدس والوقيعة والعنصرية المقيتة فإن ذلك النفر يستهدف نسف أبسط قواعد العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين القوميتين الرئيستين ولغم أسس الشراكة الرصينة والتعايش السلمي الأخوي الأختياري بينهما وإبقاء الأسباب والدوافع التي تؤدي إلى أضطراب المجتمع العراقي وتفكيكه وتخلفه.
إن الضرورة الماسة وواجبات السلطة ومصلحتها ومصلحة الشعب تفرض على السلطة بالحاح المضي قدما في تأدية ألتزاماتها ومسؤولياتها بتنفيذ البيان لتقطع الطريق على كل متصيد في الماء العكر وتقضي على عوامل ضعفها وإنحلالها وتوفر مقومات تعزيز مركزها وتصفية كل المخلفات والمساوئ والأوضاع الأستثنائية التي تركتها العهود السابقة وتعيد ثقة الشعب بها وذلك بإعداده للاسهام بمسؤولياته الوطنية في الداخل ولتلقى بكامل ثقلها وعدتها في القضايا، إن مثل هذا الموقف السلبي الذي أتخذته السلطة تجاه قضية شعبنا وبالأخص منذ أواخر الخريف المنصرم بخلق وأفتعال أحداث لا مجال لذكرها ولاتزال على ما يبدو تحاول الإمعان والإصرار على التمادي في موقفها بأشد سلبية وتنعكس هذه المظاهر المؤسفة التي تتخطى حد تجميد القضية وتتناول حتى مصادرة بعض الألتزامات التي قامت بها بصدد محتويات البيان ونخص بالذكر منها موضوع جريدة التآخي وما أحيط بها من الملابسات وحملات التشكيك والملاحقة والمضايقة والتهديد والغلق منذ صدورها إلى يومنا هذا مما يضطرنا إلى سرد بعض تفاصيلها وبسط الحقائق كما هي.
لا يخفى على سيادتكم أهمية دور الصحافة في الدول الحديثة وما تحكمه من جوانب هامة لحرية الشعب الذي يعتز بها وليمارس قسماً من نشاطه الفكري والسياسي من خلالها ولتتعايش الأفكار والأجتهادات المختلفة ضمن إطار المصلحة الوطنية العامة في ظلها. وقد حثت جميع الشرائع السماوية والمباديء الديموقراطية على تشجيع إنتعاش الأفكار الحرة. فقد جاء في القراّن الكريم اآيات بينات على ذلك. كما ورد على لسان نبينا محمد (ص) في الحديث الشريف قوله (أختلاف أمتي رحمة) تقديراً منه لحرية الرأي وفتح أبواب الأجتهادات على مصراعيها . وقد أصبح ذلك في العصر الحديث من الضرورات اللازمة للتعبير عن حاجات ومصالح القوميات والطبقات المختلفة وعلاقاتها المتفاعلة مع بعضها في المجالات السياسية والأجتماعية والأقتصادية ومع الدولة بوصفها الإطار العام الذي يضمها بين أحضانها وضرورة التفتح عليها للتعبير عن آراءها المتباينة ومصالحها وتنمية مواهبها الفكرية بحرية وإيصال شكاواها إلى مسامع المسؤولين وإبداء أنتقاداتها الموضوعية لتصرفاتهم ومواقفهم السلبية وتقاعسهم عن إداء واجباتهم الوطنية كحق أستساغته بعض المجتمعات القديمة قبل أكثر من ألفي عام . وبصفتنا ثاني القوميتين الرئيستين في العراق . وأستنادا إلى متطلبات العدالة الأجتماعية ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات من جهة والالتزامات التي أخذتها الحكومة على عاتقها في الفقرة الثامنة من بيان 29/حزيران الذي يمنحنا حقا بأصدار الصحف للتعبير عن رأينا بحرية في القضايا السياسية والمشاكل الخاصة والعامة وأحياء تراثنا القومي والأدبي وتعريف قضيتنا إلى شقيقتنا الشعب العربي والعالم الخارجي . هذا بالإضافة إلى ما في إصدار مثل هذه الصحيفة من تأثير في بحث الإطمئنان والثقة بين الشعب الكردي والسلطة وبالأخص في مثل هذه الظروف الدقيقة علاوة على أن هذا الموضوع قد تناولته المباحثات الشفهية بين المسؤولين وشعبنا ورئيسه البارزاني بشأن غلق الإجهزة الإذاعية الموجودة لدينا مقابل التعبير عن رأينا بحرية في جريدتنا بقدر ما تسمح به القوانين . هذا بالإضافة إلى كل الأسباب والألتزامات التي تؤكد ضرورة إصدار مثل هذه الصحيفة كحق طبيعي وشرعي وقانوني فإن إصدارها يعد نوع من التقيم للسلطة ذاتها تضفى عليها صفة تبنيها بعض المظاهر الديموقراطية وتخليها عن النزعات الدكتاتورية والشوفينية . وبعد مضي عشرة أشهر كاملة من إصدار البيان منح حق الأمتياز لنا بأصدار جريدة بأسم التآخي . وقد حظيت بتأييد سيادتكم وموافقتكم بدرجة فضلتم أختيار أسمها الحالي ومن ثم قامت بواجباتها الوطنية والقومية ورسالتها الصحفية فحملت راية الوحدة الوطنية والإخاء القومي والتآلف الوطني وتبنت مشاكل الشعب العراقي بأسره وأنتقدت الجوانب السلبية للسلطة بشكل نقد موضوعي بناء وتعرضت إلى أزمة الحكم ومعالجتها وتصفية الأوضاع الأستثنائية وبناء الحياة الدستورية والحكم الديموقراطي السليم وساهمت بدور فعال في القضايا المصيرية للأمة العربية الشقيقة والوقوف بجانبها كما وتبنت سياسة خارجية سليمة قوامها التأكيد على الصداقتها للتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة وتتصدى الأمبريالية والصهيونية والرجعية وغيرها من القضايا والمشاكل العديدة الأخرى.
وقد تمكنت من ملئ الفراغ السياسي الواسع على المستوى القومي والوطني لحجب الحرية عن زميلاتها من الصحف القومية والوطنية كما وأثرت تأثيرا ملحوظا في رفع مستوى الصحافة العراقية وغدت موضع أهتزاز وأحترام أوساط واسعة من الشعب وقواه المختلفة . غير أنها مع مزيد الأسف أصطدمت منذ صدورها بغوغائية نفر من الحاقدين الذين شرعوا بتجنيد حملات من التشكيك والأراجيف ضدها بغية إلهائها وجرها إلى صدامات جانبية فألقتهم حجرا وأبت أن تهبط إلى مستوى المهاترات كما أصطدمت في نفس الوقت بمعاداة قسم من المسؤولين لمجرد كونها حافظت على تأدية رسالتها الحقيقية في نقد الحكم وأسلوبه ومساوئه وتعرضت إلى الوعيد والإنذار والتهديد ومن ثم فرضت عليها وعلى زميلاتها الرقابة المستمرة وشرعت بفرض التشديدات عليها في عهد وزير الثقافة والإرشاد الحالي الذي حاول حثيثا النيل منها. ولم تكتف السلطة بكل هذه التصرفات المشددة فتعمدت أخيرا وبشكل سافر إلى محاولة حجب مثل هذه الحرية الضئيلة عن الشعب وصحافته وتأميم الفكر وأحتكاره بحجة تنظيمها ورفع مستواها وغيرها من المسميات المفضوحة إلى أن شرعت أخيرا قانون المؤسسة العامة للصحافة وضربت عرض الحائط جميع صيحات الشجب والأستنكار المرفوعة من قبل مختلف الأوساط لما لمثل هذه العملية اللاديموقراطية من تجن سافر على حريات الشعب والتعرض لكرامة الصحافة وأستغلالها وأخضاعها لسيطرة الدولة مما يفقدها كل خصائصها الأساسية في التعبير عن رأي الشعب وقومياته وطبقاته وفئاته وتصبح مجرد نشرات رسمية توجهها السلطة وفق مشيئتها مما يتنافى مع أبسط قواعد الحرية ومبادئها.
وكان للسيد وزير الثقافة والإرشاد اليد الطولى في هذه العملية . وهكذا تعرضت الصحافة العراقية إلى غزو وتصفية وإنتكاسة لم تشهد مثلها طيلة تاريخ الصحافة العراقية . فأغلقت جميع الجرائد وألحقت بها وبأصحابها والقائمين عليها والعاملين فيها أفدح الخسائر المادية والمعنوية وتعرضت أفواج من المواطنين الذين كانوا يعيشون عليها إلى البطالة والتشرد والحرمان . وقد أمتدت يد الغلق إلى التآخي أيضا على الرغم من المبررات التي كانت تقتضى عدم غلقها كما بيناها آنفا . وعلى الرغم من الصورة التي أغلقت بموجبها فإنها قد تركت آثارا كادت أن تؤدي إلى خلق حالة في غاية الأستفزاز والتوتر والخطورة لمصادفتها مع الظروف التي قلبت أثنائها السلطة ظهر المجن لقضية شعبنا . وبعد مداولات ومماطلات مملة أعيد منح حق أمتياز إصدار جريدة لنا ثانية بعد ان رفضنا عدة محاولات كانت تستهدف تأميم فكرنا وجرنا للإنضمام إلى القطاع العام . وكذا محاولة النيل من الجريدة بوضعها تحت رحمة حصار شديد وتقييدات لا طائل من ورائها لدرجة تفقدها كل مميزاتها وتحول دون إداء رسالتها . وأخيرا تم الأتفاق على إصدارها مع إبقاء بعض المضايقات فتعرضت إلى عملية تحريض رؤساء تحرير صحف القطاع العام على تقديم الأستقالة فيما لو وافقت الحكومة على إصدار التآخي . ومن ثم فرضت عليها الرقابة مجددا . كما وفرض عليها الملحق الكردي بصفحتين لغاية التعجيز المضايقة . وقد كلفنا ذلك خسارة مادية لا تقل عن ألف دينار شهريا بالإضافة إلى مصاعب الطبع وغيرها بدلا من إرجاع الجريدة إلى صورتها السابقة . كما وقطع عنها جميع الإعلانات الحكومية في الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات وغيرها وحصرها جميعا بالصحف الحكومية فقط . بالإضافة إلى ملاحقات أخرى كمحاولة شراء المطابع التي كانت تطبع فيها وحصر أستيراد الورق بالمؤسسة العامة للصحافة ومع ذلك وتأكيدا على حسن نوايانا وضرورة العمل على إداء رسالتنا السلمية البناءة تجاه شعبنا الكردي والعراقي بأسره تقبلنا إصدار جريدتنا . بيد أن وزارة الثقافة والإرشاد لم تكتف بكل هذه المضايقات المشددة بل أضافت رقيبا عسكريا على الجريدة على الرغم من وجود رقيبها المدني . ومع ذلك واصلنا إداء مهمتنا ولم نتخط في يوم من الأيام قاعدة خرق الرقابة أبدا . غير أن السيد الوزير بدافع نزواته الإندفاعية والهلع الذي ساوره في فشل مشروعه وما تخيله من أثر لإنجازاته العتيدة المتجلية في المؤسسة العامة وما رصد لها من الأموال الطائلة من خزينة الدولة وعرق الشعب وجهده - شرع في مواصلة ملاحقته لجريدتنا دون أي مبرر وخلافا لكل التقاليد والألتزامات الأدبية التي تفرض عليه حماية الصحافة وتوجيهها بأساليب الحوار والتفاهم والإرشاد ونبذ أساليب الحقد والمطاردة وبمثل هذه الصورة غير اللائقة من التحجيزات والمعوقات التي أستهلها بإنذاره الأول المشحون بالتهم الباطلة والتهجم الذي كان ينطوي على روح الحقد والتشفي سيما بحق جريدة تمثل لسان شعب يأبى الضيم والخنوع لكائن من كان وبالأخص لشخص يسيء أستخدام أعمال وظيفته ويتجاوز حدودها بالطعن والتشهير بحق وسمعة شعب يؤلف جزءا مهما من المجتمع العراقي والتمادي في أستهتاره إلى درجة عدم قبول نشر رد التآخي على إنذاره كحق طبيعي للدفاع عن النفس تفرضه كل الشرائع والأنظمة المعروفة . وأخيرا لم يكتف بكل ذلك فإذا به يصر على ممارسة أساليبه الإنتقامية السافرة . فعلى الرغم من كون مقالنا الأفتتاحي في يوم 7/ أيار الذي تطرقنا فيه بدافع من مسؤوليتنا الوطنية وحق التعبير عن رأي شعبنا حول أهم القضايا الحيوية التي تخص الشعب العراقي بمجموعه بصدد تعديل الدستور المؤقت وتمديد فترة الإنتقال خلافا لرغبة الشعب وأمانيه – حسب أعتقادنا – نقول على الرغم من تصديق ذلك المقال من قبل الرقيبين المدني والعسكري فإن وزير الإرشاد وبدافع من الغرض الشخصي أستخدم أقصى صلاحيات وظيفته فأقدم على غلق جريدتنا لمدة ثلاثين يوما بقرار تتفجر منه روح الحقد والمغالطة وتحريف الحقائق . وأدى ذلك إلى ردود الفعل المهيجة التي تلقاها أبناء شعبنا بالإستنكار والتوتر الشديدين خاصة ومختلف الأوساط الوطنية والشعبية عامة . كما وتناقلته الإذاعات الخارجية دون أن يراعى أي أهتمام للأعتبارات التي ذكرناها آنفا وما تترك وراء مثل هذه النزوات الإنفعالية الكيفية من الآثار والأنطباعات الخطيرة رغم عدم قيامنا بأية مخالفة ما . وقد أضطررنا اللجوء إلى حق الدفاع الشرعي المقدس وتقديم مذكرتنا التيٍ رفعنا صورة منها إلى سيادتكم وكشفنا عن دوافعه الإنتقامية وفندنا جميع مزاعمه الباطلة .
فعليه وبالنظر لما تقدم أعلاه نرفع إلى مقامكم هذه المذكرة آملين أن تكون موضع دراستكم وأهتمامكم وأن تغنينا التجارب المريرة والعواقب الوخيمة والكوارث المدمرة التي أنزلت على شعبنا العراقي عامة والكردي خاصة لتكون خير حافز على ضرورة وأهمية أستخدام النوايا الخالصة والإدراك السليم والمعالجة الجدية في حل مشاكل البلاد الرئيسية وفي مقدمتها الإسراع بحل القضية الكردية وذلك بتنفيذ ما تبقى من البيان نظرا لما لها من أهمية قصوى ونتائج باهرة في إرساء قواعد الأمن والأستقرار ورّص الصف الوطني والإخاء القومي وحل معظم معضلات البلاد المتعلقة بها بما فيها رفع المقدرة الدفاعية للقضايا المصيرية وسد المنافذ أمام كل المغرضين والحاقدين من مروجي الفتن ومثيري القلاقل وتعزيز مركز الدولة وأعادة هيبتها ودعم سيادتها وقوتها.
وختاما نأمل أن ترفع جميع المضايقات بحق جريدتنا (التآخي) بما فيها قرار الغلق المذكور والإقلاع عن مطاردتها ومعاملتها كجريدة أعتيادية وتقدير مبررات وجودها كضرورة حتمية ومصلحة وطنية لا بد منها لكونها تمثل لسان ثاني القوميتين الرئيستين وتفضلوا بقبول فائق الأحترام .
صالح اليوسفي
رئيس تحرير جريدة التآخي بغداد في 25 أيار / 1968 (3)....يتبع
المصادر والهوامش:
(1)عبد الرحمن البزاز أول رئيس وزراء مدني في العراق الجمهوري – سيف الدين الدوري.
(2)حوار العمر – مذكرات الرئيس جلال الطالباني – إعداد صلاح رشيد – ترجمة شيرزاد شيخاني.
(3)من أرشيف المناضل الشهيد صالح اليوسفي.