1 قراءة دقيقة
الحلقة: الثالثة والتسعون


ذكرت في الحلقة السابقة أن والدي ومن خلال محاولاته الحثيثة مع النظام من أجل أن يوصل شعبه (المُحمل بآلام النكسة) إلى بر الأمان والسلام وبأي ثمن وطريقة تضمن لشعبه كرمته وعزته.. حيث شعر والدي ولأول مرة في حياته أن المسؤولية الكبرى أتجاه شعبه المظلوم قد وقعت على عاتقه وحده، وفي ظل مرحلة تعتبر من أصعب المراحل التي مرت على تاريخ شعبنا الكوردي.فبعد إخفاقه من محاولاته الأولى عن طريق لقائته ببعض المسؤولين من النظام أثر عودته في فندق كارلتون في بغداد، من خلال طلبه للقاء بالرئيس أحمد حسن البكر أو نائبه صدام حسين لحل المشكلة بالطرق السلمية.. قبل أن يتم تنفيذ الخطوات الأخيرة على أتفاقية 6 آذار.
صمم والدي بعد ذلك على تنفيذ محاولته الثانية وذلك بكتابة رسالتين لكل من الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، وركز أهتمامه على رسالة البكر لأنهُ الأكثر تقديراً ومحبتاً لوالدي.
خاصة بعدما تأثر والدي جداً على بعض الخطوات والقرارات السياسة القاسية التي أتبعها النظام بعد عودة العديد من أبناء الشعب الكوردي إلى العراق.. حيث أخذت تنفي أغلب الشخصيات السياسية والعسكرية والثقافية الكوردية خاصة إلى المحافظات الجنوبية(1).
وهنا أريد أن أتوقف قليلاً دون أن أذكر أصحاب بعض الأقلام المأجورة من بعض الكتاب الذين لا يتعدون أصابع اليد من خلال كتاباتهم الخبيثة والحاقدة وذلك للمحاولة من تقليل دور والدي في شأن محاولاته مع الحكومة بعد عودته.. سواء من ناحية لقاءاته مع قيادات النظام أو من خلال هذه الرسائل التاريخية المهمة مما فيها من الحكمة والموعظة لا على صعيد قضية شعبنا الكوردي وإنقاذهم من آلام النكسة ونتائجها السلبية عليهم.. بل وحتى من أجل أستتباب الأمن والسلام والأستقرار في عموم العراق والشعب العراقي برمته.
وهؤلاء الشرذمة من الكُتاب ومن خلال أقلامهم العفنة.. البعض منهم أنكروا مقابلة والدي بالمسؤولين من نظام بغداد بعد عودته.. والبعض منهم أستهان من كتابة هذه الرسائل التاريخية الموجهة للرئيس البكر ونائبه صدام حينها، ومن المؤسف أن هؤلاء الشرذمة ما هم إلا مجموعة من الكُتاب الكورد أنفسهم..! دون أن تستوعب عقولهم الضيقة الأفق وقصر نظرهم.. بأن ما قام به هذا القائد الفدائي المخلص الأمين والحكيم العظيم الذي تحدى الصعاب والموت من أجلهم ومن أجل أن ينعم شعبه بحياة حرة كريمة.. فيا لسخرية الأقدار..!
وأن أصحاب العقول النيرة يعلمون جيداً لو كان كتب النجاح لمهمة والدي.. لتدارك العراق وشعبه برمته العديد من النكبات والمحن والويلات التي أنهالت عليهم في فترات مظلمة تعتبر من أسوء الفترات التي مرت على تاريخ العراق وشعبه.. فشتان ما بين العقول النيرة وبين أصحاب الأقلام المأجورة.. للأسف ماذا عساي أن أقول لهؤلاء الشرذمة من الكُتاب..؟! ولا أريد أن أبلغ مستواهم لكي أرد عليهم.. فالحمد لله التاريخ أثبت وما زال يثبت لحد الآن صحة أفكار وتطلعات وحكمة وسياسة والدي وبُعد نظره للأمور وللمستقبل السياسي لا على صعيد قضية أمته الكوردية وعلى صعيد العراق فقط بل تجاوز ببعد نظره الحكيم سياسياً حتى على العالم الخارجي.
وهنا سوف أضيف بعض المقتطفات في هذه الحلقة من رسالة والدي للبكر.. كيف يظهر من خلالها جرأته المعهودة في المناقشة والحوار والأسلوب المحترم حول الأحداث والمشكلة وقد أشار من خلالها على لقائه بالمسؤولين.. وأرجوا لمن أنكر ذلك وأعمى بصيرته أن ينتبه جيداً حين أشار والدي في رسالته الجملة التالية: (( وقد نقلت رغبتي هذه إلى الأخوة المسؤولين أكثر من مرة وكان متوقع (ينبغي) أن أكون عند حسن ظنكم وموضوع ثقتكم والأستفادة من مشورتي النزيهة المجردة من كل غاية شخصية في هذا الموضوع الحيوي الهام، والذي يمكن يدّر بالخير العميم قطرنا العراقي....))، كما ويرد والدي أيضاً كيف رفض المناصب التي عرضت عليه من خلال الجملة التالية: ((ولا تجدني أية رغبة أو طموح لنيل منصب أو جاه أو مصلحة شخصية لأني قد عزمت أعتزال العمل السياسي والتفرغ لإستجابة مواهبي وهوايتي في الشعر والأدب والتأليف..)) وضعت بعض النقاط بعد عدة جمل.. لأسباب خاصة.

مقتطفات من رسالة والدي للرئيس أحمد حسن البكر:
(( تريثت طويلاً معللاً النفس بالآمال لأقتناص فرصة أتشرف خلالها بمقابلة سيادتكم لا لغرض المجاملة والتملق أو ألتماس أية مصلحة شخصية علم الله ولكن إنطلاقاً من صميم المصلحة العامة المستهدفة إلى أهمية تكثيف كل الجهود المتوفرة لإستكمال معالجة أخطر قضية واجهت وتواجه قطرنا العراقي الغالي من جذورها وتجنبها من بعض الهفوات والمضاعفات التي لا بد أن تحدث بشكل عفوي نتيجة طبيعية هذه المشكلة المعقدة وتفاقم الأوضاع والظروف التي تكتنفها والأوساط والجهات التي تتربص بها للأستفادة من ورائها........... وإمكانية الأستفادة من خبرتي النزيهة والطويلة حول المعضلة المذكورة، بعد تجردّي الكامل من جميع قيود وترسبات.......... ولست أبغي من وراء ذلك جزاءا ولا شكورا ولا تجدني أية رغبة أو طموح لنيل منصب أو جاه أو مصلحة شخصية لأني قد عزمت أعتزال العمل السياسي والتفرغ لإستجابة مواهبي وهوايتي في الشعر والأدب والتأليف......... بعد أن تأكد لي من خلال خبرتي وتجربتي السياسيتين لما يقارب من أربعين عاماً أن أصحاب المبادئ وبالأخص من المسؤوليات العليا الذين يضحون بحياتهم وحياة عوائلهم من أجلها يعتبرون من العينات النادرة من المجتمع السياسي المتلون الذي يضح بالغارقين إلى أذقانهم من حمأة الأنتهازية والتزلف ولا يهمهم في الحياة سوى الركض وراء مصالحهم الشخصية الرخيصة في سوق المساومة الرائجة وبالسمسرة وراء الشعارات لخدَع البسطاء........ أستناداً على هذا الواقع المرير فقد سئمت أستئناف ممارسة العمل السياسي وكفرت به ولا أود العودة إليه لإصطدامي بسلبيات ومنغصات لا حصر لها وتجرعت ورائها آلاماً مبرحة..............
سيادة الرئيس.. إنطلاقاً مما أوردته أعلاه وإلى ما أكنهُ لمقامكم شخصياً من المودة والأحترام الذي كنت أبوح به جهراً في أحرج الظروف............. لقد كنت أتوقع منذ عودتي أن أحظي بمقابلتكم بصفتي مواطناً عراقياً لم آت شيئاً إدّا أبداً بل بالعكس تماماً فيما أن أطلع سيادتكم على حقيقة ذلك حيث كرست كل جهودي قبل وبعد أتفاقية آذار وإمكانياتي من أجل السلم والتآخي القومي والتحالف المصيري.
وكان يهمني كثيراً قبل وبعد أتفاقية بيان آذار وبعد العودة مباشراً لأن أضع أمكانياتي أمام السلطة الوطنية بقيادتكم والأعتماد والركون عليّ أكثر من أي شخص آخر في هذا المجال لإستقامتي وعفتي وخبرتي الطويلة المجردة من أي غاية شخصية لأستكمال ما تبقى من معالجة هذه المعضلة الخطيرة وسد جميع المنافذ أمام جميع الأوساط المعادية لإستثمار أية هفوة تحدث مخاطر............
وقد نقلت رغبتي هذه إلى الأخوة المسؤولين أكثر من مرة وكان متوقع (ينبغي) أن أكون عند حسن ظنكم وموضوع ثقتكم والأستفادة من مشورتي النزيهة المجردة من كل غاية شخصية في هذا الموضوع الحيوي الهام، والذي يمكن يدّر بالخير العميم قطرنا العراقي..
لم يرتقي لدي أي شك عبر حياتي السياسية بوجود ثمة تناقض وتنافر بين مصلحة وطموح وأهداف حركة الثورة العربية القومية التقدمية وقيادتها الثورية وبين ما يماثلها من حركة شقيقتها الصغرى القومية الكردية بل أعتقدت وأعتقد جازماً أنهما تتلاحمان في الأهداف والمصير المشترك الواحد وإن إحداهما كان ينبغي أن يكون بمثابة أمتداد للثانية وإن إجهاض وإضعاف وتجزئة وتصفية أية منهما يعتبر إصابة بليغة تؤثر على الثانية، وذلك إنطلاقاً وإيماناً بمبدأ تلاحم حركات تحرر الشعوب مع بعضها البعض إذا حدث أي شيء يخالف جوهر هذا المبدأ.......... قد يتجاوز على ذلك الكثير من البلاء، وإن قوة الوشائج القويمة التي تربط بين الشقيقتين في شتى المجالات بعد تلاحمها مع بعضها البعض.........
ومع ذلك فأعتقد قد حدثت بعض الهفوات التي كانت تتربص لها تلك الأوساط المعادية بلهفة وقد أستغلتها لمصالحها وكان بالإمكان تجنبها فيما لو كانت تؤخذ مشورتي حولها بنظر الأعتبار...... ولكن مع الأسف سيادة الرئيس أعتقد أن تشخيص موقفكم لمعالجة المشكلة سيما بعد أتفاقية الجزائر وتشخيص موقفكم الذاتي لم يكن دقيقاً وموضوعياً بشكل عام فقد برز فيهما بعض شحنات الإنفعال والتشنج والأستعلاء وكأن كل همكم هو إجهاض وتشتيت الحركة الكردية من الأساس أنطلاقاً من موقفكم المنفعل..... والتباهي بالإنتصار عليها دون تفريق وتميز بين موقف العناصر......... الذين سببوا هذه الجريمة........ وبين أصحاب المبادئ وجماهير الشعب الكردي وضرورة أحتضانهم والحركة الكردية ذاتها أعتقد إن أي إضعاف للحركة الكردية هو إضعاف لحركة الثورة العربية ولحزبكم والعكس بالعكس ثم فاتكم كثيراً حسب أعتقاد أستثمار مشاعر الشعب الكردي الأليمة....... في هذه المحنة الموجهة إلى شاه إيران ومسؤولية المسببين لها..... دورهم من قذف الأتفاقية في وجهه ليس فحسب بل الإسهام الفعال لأهتزاز عرشه والإطاحة به أو على الأقل حضره في زاوية........
أعتقد رغم أضطرار قيادة حزبكم بأبرام أتفاقية الجزائر غير المتكافئة نتيجة........... فسامحوني إذا أقول بأنها قد مسّها شحنة من الأستعلاء والغرور والمباهاة وتصورها الخاطئ بأنها أنجزت أنتصاراً عظيما وباهراً..........أن ما عدا ذلك ليس هناك من ورائها أي نوع من الإنتصار المزعوم وأن عدم التفريق والفرز بين.......... التي جردت الحركة الكردية من مقوماتها وخصائصها وأفرغتها من أصالتها وبين الحركة الكردية الأصيلة ذاتها التي تعتبر إضعافها وإنهاكها إضعافاً وإنهاكاً لحزبكم وللثورة العربية وقد وقع قيادة حزبكم في خطأ كبير، ففي أعتقادي أن المنتصر والغالب الحقيقي في هذه الأتفاقية هو ألد أعداء كليهما المحرض والمتآمر الكبير شاه إيران......... لتحقيق مآربه الخبيثة فوجه ضربتين موجعتين لكليهما للضغط بها وأنتهاك سيادة العراق وحرمت إنتزاع أراضيها وهو لا يكتفي بذلك فقط بل سوف يحاول بشتى أساليب الدس والغدر... تغير سياسة الحكم في العراق ليسير في ركابه وفق مطامعه البهلوانية - وها هو يترصد بكل خسة وحنكة للأستفادة من كل هفوة تصدر منكم بأثارة مشاعر الأكراد اللاجئين الباقين لديه والذي حال دون عودتهم، السياسة المتسمة بالصرامة والمثيرة لمخاوفهم.. وهو يحاول أستثمارهم كورقة رابحة في يده ليلعب بهم متى ما أراد كأداة ضغط وإثارة للسلطة الوطنية لتحقيق مآربه الشريرة.. في الوقت الذي كان من المحتم أن يصبح كل الأكراد وبما فيهم هؤلاء قوة بشرية هائلة تقف بجانب السلطة لإقتلاع جذور عدوهما الأوحد الطاغية (الشاه) وحكمه المتفسخ المشيد على الخداع والزيف والتآمر وتحطيم هذه الأتفاقية تحت أقدامه فيما لو كانت هناك ثمة آذان صاغية لمشورتي وصيحاتي الصادقة حول ذلك..... يتبع

هوامش ومصادر:
(1)يذكر الأستاذ عادل مراد: ((غير النظام من أساليبه العنصرية وفق الظروف التي مرت على الشعب الكوردي، فبعد انهيار الثورة الكوردية اثر اتفاقية الجزائر في 6/3/1975وعودة الأهالي إلى مدنهم وقراهم، بدأت السلطات بشن حملات منظمة لنفي المثقفين والعسكريين والقضاة وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني إلى غرب العراق (محافظة الرمادي) وجنوب العراق في محافظات (العمارة، السماوة، الكوت، الديوانية ، النجف والحلة) فنفي إلى الرمادي الآلاف من المواطنين (العائدين إلى الصف الوطني كما كان يسميهم صدام حسين) واذكر منهم: الشاعر شيركو بيكس والصحفي البارز مصطفى صالح كريم والكاتب محمود ملا عزت والسيدة فخرية فتح الله والدكتور نوزاد صالح رفعت كاكائي وعلي مصطفى الخال والمحامي محمد صالح قازاني وكمال ميرزا غفور ونهاد الشيخ نوري وفوزي رشيد نامق، هولاء تم نفيهم في ظروف قاسية إلى مدينة هيت ثم نفي بعضهم إلى قرية بغدادي، وفي المرحلة الثانية نفي الآلاف من الفلاحين من اهالي راوندوز وخوشناوتي وبشدر إلى المنطقة، كما نفي الالاف الى مدينة الكوت واذكر منهم الشهيد دارا توفيق الذي عين مديراً لبلدية المدينة وكان معه المرحوم السيد شفيق آغا احمد الجلبي، واساتذة جامعة السليمانية وكبار الموظفين إلى الناصرية وبغداد، منهم الدكتور كمال خياط والسيد جلال سام آغا والدكتور عزيز احمد ونوري أمين بك والدكتور جلال شفيق واللواء عمر شيخ حسن وكمال غالب الجلبي وكمال ابراهيم وعزيز حسن لوكه، والى مدينة السماوة نفي الآلاف منهم المرحوم عبـدول سوران والقاضي احمد صالح (والد الدكتور برهم صالح) فضلا عن الشخصية السياسية البارزة المرحوم حمزة عبدالله ونوري دشتي، والى مدينة العمارة نفي المناضلين الملازم عمر عبدالله والملازم شيردل حويزي والدكتور رمزي تقي رحمان والعشرات من خيرة الكوادر العسكرية والسياسية والثقافية. (عادل مراد من طليطلة إلى بغداد).



تم عمل هذا الموقع بواسطة