الحلقة الثالثة والأربعون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
إلتحاق والدي بالثورة... بداية لمعاناة جديدة
مع بدايات عام 1969، أصدرت الحكومة قانون المطبوعات الجديدة حيث ألغت أمتياز جريدة التآخي، كما وأصدرت في الثاني عشر من حزيران/ يونيو 1969 قراراً بحجز الأموال المنقولة والغير المنقولة العائدة لرئيس تحريرها صالح اليوسفي وبذلك أنتهت المرحلة الأولى لصدور جريدة التآخي بصدور (430) عدداً منها وكان آخر عدد لها هو في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 ولم تصدر التآخي بعد ذلك، حيث كانت المعارك دائرة بين قوات الحكومة وقوات الثورة الكوردية(1).
أنسحب أعضاء مقر الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكردستاني من بغداد إلى مقر القيادة الكردية في يوم 25 شباط/ فبراير 1969 كل من السادة يد الله كريم فيلي ومحمد أمين بك وألتجأ المهندس شوكت عقراوي إلى القاهرة، وظل والدي في بغداد إلى بداية آذار/ مارس 1969 في مراحله النهائية من المفاوضات مع النظام، رغم الضغوطات التي أشار إليها في رسالته التي نشرتها في الحلقة السابقة(2)، وبعد مغادرته إلى القيادة وفي صباح الباكر من اليوم التالي حدثت حادثة تفجير آبار نفط كركوك.. فأضطر والدي إلى البقاء، ونشب الحرب مرة أخرى بين القيادة الكوردية وحكومة بغداد.
لم تدوم فرحتنا برفقة والدي طويلاً بعد رئاسته لتحرير جريدة التآخي لقرابة عامين تقريباً، ومسؤولية الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكوردستاني في العاصمة بغداد، حيث تطورت الأحداث والمشاكل ما بين الحكومة وقيادة الثورة الكوردية ووصلت ذروتها إلى نحو الأسوء مع بدايات عام 1969، وبعد إلتحاق والدي، بدأت عائلتنا مرة أخرى تعاني من غياب رب الأسرة، حيث أزدادت حمل المسؤوليات المعيشية على والدتي.. والحمد لله إنها لم تفصل من وضيفتها كالمرات السابقة، ولكن عبئ المسؤولية المادية أزدادت على كاهلها خاصة بسبب إلتحاق أثنين من إخوتي نارين وشيرزاد إلى المرحلة الجامعية، ومررنا بحصار أقتصادي مرة أخرى.. وهكذا سارت بنا الحياة من ضنك العيش.
كان والدي خلال فترة إلتحاقه بالثورة يبعث لنا بالرسائل وبشكل سري وبأيدي أمينة فتبادلهُ والدتي بإرسال الرسائل بنفس الطريقة، وهذه الرسائل كانت تصلنا بواسطة سيدة وكانت تقوم بهذا الواجب مع بعض العوائل الأخرى مِمَن كان أرباب عوائلهم من الملتحقين بالثورة..
(سونيا) تلك السيدة الشجاعة والجسورة والمغامرة، كانت زوجة أحد المناضلين الملتحقين بالثورة الكوردية في فترة الستينيات يدعى (ملا حسن البارزاني)، وكانت سونيا روسية الأصل ولديها الجنسية السوفيتية، وكانت تأتي إلينا وبرفقتها أبنتها الوحيدة (جميلة) التي كانت في نفس مرحلة عمري.
كانت السيدة سونيا تزورنا في وقت متأخر من الليل خوفاً من المراقبة وكانت تلبس غطاء للشعر (إيشارب) حتى لا يعرفها أحد، حيث كانت شقراء وعلامات شخصيتها الأجنبية واضحة (الحق يقال فأن هذه السيدة العظيمة سونيا تستحق أن تكون من ضمن لائحة المناضلات الكورديات لِما قامت به من هذا العمل البطولي) ولو أن السلطة حينها شعرت بذلك لكانت دفعت حياتها ثمناً غالياً قد يصل إلى الإعدام (فلها ألف تحية محبة وتقدير لشجاعتها وإخلاصها للشعب الكوردي في أوقات المحن)، أتذكر السيدة العزيزة سونيا حين كانت تزورنا وكنت أسعد بصحبة أبنتها جميلة، كانت تسرد علينا ظروف وأحداث النضال في جبهات القتال، وكيف كانوا يعانون من المعاناة والتضحيات والقصف وقلة المؤونات، وكيف كانت تناضل برفقة زوجها، وكانت تتحدث لنا كيف كانت تخبئ رسائل المناضلين حين تجلبها، كانت السيدة سونيا تخبئ الرسائل في ثنايا الشرائط التي تربطها بشعر أبنتها جميلة.. وأحياناً أخرى كانت تضعها داخل رأس دمية لأبنتها.. أو كانت تضعها في كبابة شعرها الطويل حيث تسرحها على شكل كرة وتخبئ الرسائل فيها..! هكذا كان الأتصال بيننا وبين والدي وهو في جبهات النضال.
أود أن أشير إلى إن السيدة سونيا كانت قد تعرّفت على (ملا حسن البارزاني) أثناء دراسته في روسيا وقد تزوجا هناك وعادا سوياً للعراق حيث كان يعمل ملا حسن في بغداد ويسكن في محلة الإسكان، فتعلمت السيدة سونيا اللغة العربية بالإضافة إلى الكوردية، وبعد أستئناف القتال في بدايات عام 1969 ألتحق ملا حسن بالثورة وبرفقته زوجته سونيا التي كانت تقوم وحدها وخلسة بتلك الزيارات المكوكية إلى بغداد لنقل تلك الرسائل.
ومن محاسن الصدف الجميلة أنني رأيت في إحدى الأيام في العام الماضي وبعد نشر خواطري على صفحتي أن تطلب الصديقة العزيزة جميلة صداقتي..! وتبادلنا الرسائل وسررت جداً بها وطلبت منها إن كان لديها صورة لوالدتها المناضلة.. فأرسلت لي هذه الصورة الجميلة التي تشرفت بنشرها من خلال تصميم حلقتي هذه والتي تجمع عائلتها الصغيرة.. كل الشكر والتقدير للصديقة العزيزة جميلة وألف رحمة ونور على روح والدها الشهيد العم الفاضل ملا حسن الذي كان يعزّ والدي وعائلتي أشد أعتزاز وتقدير، وكانا هو ووالدي بمثابة أخوان في فترة الستنيات والسبعينيات وإلى حين أن أعدمته النظام في الثامن والعشرين من نيسان عام 1975(3).
حين ألتحق والدي بقيادة الثورة الكوردية خلال عام 1969، أنيطت إليه بالإضافة إلى المسؤوليات الحزبية والثورية مسؤولية الإعلام والإذاعة الكوردية مرة أخرى حيث يذكر الأستاذ الإعلامي بارزاني ملا: ((كان اليوسفي صديقاً ومسانداً للفقراء وأحترامهم وحمل العبئ عن هذه الطبقة الكادحة كونهم وقود الثورة حسب إيمانه.. وأتذكر في صيف 1969 في الوقت الذي وضع فيه الحجر الأساس لأذاعة صوت كوردستان العراق في (مةمى خةلان) زارنا صالح اليوسفي ولأول مرة سمعت منهُ كلمة العمل الشعبي فقد طلب الأستاذ اليوسفي أن نشترك فيه لبناء دار للأذاعة، وقال: ((يا أبنائي يجب عليكم أن تتعلمون العمل الشعبي وأن الإنسان يكون بالعمل محبوباً ويحترم الخبز والفقراء ولا حياء في العمل إذا لم تمسحوا العرق وتأكلون من تعب أياديكم لن تصبحوا كاملين))، كان الأستاذ اليوسفي المسؤول الأول للمكتب المركزي للأعلام كان همه الأول البيشمركة والجماهير وتنشئة جيل الشعب الكوردي، كان دائماً يوجههم بشكل واقعي وكان ينبههم في مقالاته بأن يحافظو على الأخوة والتعاون والسلام وأن يتحدوا ويتفقوا ضد الأعداء(5).
في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1969 أنتخب صدام حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة.. ليفرض نفسه بكل قوة على الساحة السياسية العراقية في غضون فترة زمنية قياسية.. ليصبح الرجل الثاني في الدولة..! هادفاً ومخططاً ليكون الرجل الأول في الدولة في المستقبل القريب.. وفعلاً بعد عقد واحد أصبح الرجل الأول دون منازع.. وتسلق السلم نحو عرش العراق بعد أن أزاح عن طريقه عدة شخصيات عراقية أما عن طريق الأغتيالات أو بحجة المؤامرات..!
أما بالنسبة لوالدي فقد بدأت تحاك المؤمرات عليه من خلف الكواليس لإبعاده عن الساحة السياسية والقضية الكوردية ومن منصبه الحزبي من بعض أعضاء القيادة..!!! يتبع
مصادر وهوامش:
(1)مقص الرقابة – علاقة جريدة التآخي بالسلطة 1967 – 1968 الأستاذ فرهاد محمد أحمد
(2)((رغم الضغوط المتواصلة بسحبي من بغداد، فقد مكثت فيها كجندي مجهول وطيف أمان وكبش الفداء لتفادي وقوع كارثة المواجهة ومحاولة إصلاح البين وكان آخرها لقائي مع الأخ الفريق عماش والتوصل إلى بعض النقاط الأساسية التي كان يمكن أن تصبح في حالة التقبل والألتزام المشترك بتنفيذها مدخلاً إيجابياً لإزالة العقبات وإعادة الأوضاع على حالتها الطبيعية وتوفير أجواء سليمة نقية للتوصل بمعالجة المشكلة من أساسها بالحوار والتفاهم المتبادل فبعد تبليغ مضمونها حرفياً إلى قيادتنا بواسطة محافظ أربيل حينذاك مع إقحام عبارات إيجابية من قبلي تنم عن روح التفاؤل للتوصل إلى نتائج إيجابية في حالة التقبل والألتزام.. فجاوبتني برقياً بما يشير عن رضائها ولكنها تفضل دراسة الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً وجدية مطالبة توجهي نحوها وما كنت أدري ماذا كانت تخبئ من وراء ذلك..)). (من مذكرة صالح اليوسفي إلى أحمد حسن البكر 1975).
(3)بعد أتفاقية آذار/ مارس 1970 عاد ملا حسن مع عائلته إلى بغداد، وخلال الحرب التي نشبت عام 74 قامت الحكومة العراقية بإلقاء القبض على زوج سونيا (ملا حسن البارزاني) بتهمة التآمر والتجسس، وتمت محاكمته وصدر عليه حكم الإعدام، وقد زارتنا السيدة (سونيا) بعد نكسة 75 وبعد عودتنا من إيران في إحدى الأيام، حيث كان زوجها (ملا حسن) ما زال سجيناً ولم ينفذ بعد حكم الإعدام عليه، وطلبت من والدي التدخل والتوسط لإنقاذه، تأثر والدي حينها كثيراً حيث كان يقدر المناضل (ملا حسن) وزوجته ونضالهما أيام الثورة، وحاول والدي بكل جهده أن يوقف تنفيذ قرار حكم الإعدام عن طريق بعض الأصدقاء المسؤولين ولكنه للأسف لم يستطيع، وتم تنفيذ حكم الإعدام في ملا حسن، وكان ذلك الخبر حقاً حدثاً محزناً تأثّر به والدي ووالدتي وجميع عائلتنا، حيث كنا نشعر بالتقدير والعرفان أتجاه المناضل ملا حسن زوجته السيدة سونيا، تلك السيدة الشجاعة والجريئة التي كانت تؤدي للكورد واجباً وطنياً مخلصاً مجازفةً بحياتها وحياة أبنتها).
(4)في ذكرى أستشهاد الأستاذ صالح اليوسفي – بارزاني ملا – من أرشيف نجم الدين اليوسفي.