مشاهد حية ويوميات من أتفاقية 6 آذار..(9)
محطات مع والدي في رحلة عودته (الجزء الثاني).
أود في هذه الحلقة أن أضيف أيضاً تعقيباً آخر إلى أستاذنا العزيز محسن دزه يى(حفظه الله) حسب ماكان يسمعهُ من الدعايات بعد عودة والدي إلى بغداد، حيث ذكر الأستاذ دزه يى:(( بعد عودة اليوسفي مباشرة شعر بالندم حسب ما علمنا فيما بعد(1)))، أعلم أن الأستاذ الفاضل محسن دزه يى قد أضاف هذه الجملة حسب الدعايات التي أنتشرت حينها.. ولكن أود أن أضيف لأستاذي العزيز محسن دزه يى بأن والدي لم يندم مطلقاً على العودة وكان مقتنعاً من قراره الذي أتخذهُ دون أي تردد.. وذلك لعدة أسباب، أولاً.. كان يكره الشاه أشد كره ولا يطيق العيش في ظل نظامه تحت أية حجة، وبالكاد كان يجرع فترة ثورة 1974- 1975 خلال زيارته لنا في مدينة نغدة الإيرانية، وكان يرغب كثيراً أن نعيش معهُ في (بابكرآواه(2))، وأكبر دليل على ذلك بنى لنا والدي فيها بيتاً بسيطاً في تلك الجنة التي تدعى بابكرآواه، وكانت أمنيته أن نترك إيران ونعيش بصحبته، ولكن رفضت والدتي بحجة مدارسنا.. وثانياً.. كان يحمل والدي معاناة شعبه المظلوم ولم يرغب أن يتركهم ليواجهوا المصير لوحدهم تحت ظل نظام بغداد بعد النكسة التي تعرضوا لها.. ثالثاً.. لم يفكر والدي اللجوء إلى الخارج مطلقاً كما حاول العديد من القياديين حينها في طلب اللجوء السياسي إلى الخارج، وإن هذا التفكير كان بعيداً عن فكره كما كان يدلي بها دوماً.. رابعاً.. وهذا الأهم إن والدي أختار وقرر وبمحض إرادته الصلبة بأنهُ إذا ما أستمر في نضاله فسوف يكون نضاله في داخل العراق ذاتها، ولن يستعين أو يعتمد على أية جهة أو قوة خارجية بل سيعتمد على جهوده وجهود المناضلين الذاتية (وذلك من خلال تجربة فريدة من نوعها في التاريخ السياسي والثوري بشكل عام والكوردي بشكل خاص خاضها والدي بكل جرأة وشجاعة وسيأتي الحديث لاحقاً كيف خاض تجربته النضالية الفريدة ما بعد نكسة 1975).
أما من جهة إخفاق والدي في الوصول إلى إنجاح خطة مفاوضاته مع الحكومة العراقية فهذا شيءٌ آخر فالمفاوضات كما نعرف هي مثل الحرب فيها فر وكر.. فيها النجاح وفيها الإخفاق وهذا شيء طبيعي ولا جدل في ذلك.. ورغم إنهُ للأسف لم يكتب النجاح لخطوة إقامة المفاوضات التي راهان عليها والدي، وهذا لا شك في عدم أمتلاك نظام بغداد حينها للخبرة السياسية الناضجة وأفتقارها لبعد النظر السياسي لما سيثمر ويجني من وراء هذه الأتفاقية المشؤومة وعدم أدراكها للكوارث التي ستنهال على عموم العراق ولأجيال قادمة.. لذا رفضت في النهاية رفضاً قاطعاً من أية محاولة سلام..! ولا شك الخاسر الأكبر كانت الحكومة العراقية التي لم تقدر محاولة جهود والدي لإصلاح وإنقاذ ما يمكن إصلاحه وإنقاذه قبل فوات الآوان وإن نتائجها السلبية ستنهال على العراق حسب بعد نظر والدي السياسي.. وجاءت بعد ذلك نتائجها السلبية التي لا تعد ولا تحصى من الحروب المدمرة والويلات والمصائب التي توقعها والدي والتي عاشها وتجرعها كل العراقيين بكل قومياتها ومذاهبها وأديانها ولحد الآن نتجرع سمومها وبعد مرور أكثر من أربعة عقود..!
لذا لم يندم والدي مطلقاً بل فعل ما يجب عليه أن يفعله صادقاً أمام الله وأمام نفسه وضميره وحاول بشتى الطرق أن ينقذ الوضع بالوسائل السلمية، ولكن النظام كان حينها منتشياً بالنصر الموهوم الذي حققه دون أن يدرك ويستوعب بنتائجها السلبية..!
كما أود أن أضيف إلى أستاذي العزيز محسن دزه يى الذي سمع بدوره أيضاً حينها بعض الدعايات التي أنتشرت حول عودة والدي كما أشار حضرته إليها حيث ذكر(3): (( بأن والدي طلب من المسؤولين السماح له بالعودة إلى إيران لإعادة عائلته.. فلم توافق السلطات وأضطر إلى إرسال شخصاً ما لتبلغ عائلته بالعودة وأستصحابها معه..)).
في الحقيقة هذا أيضاً لم يحدث مطلقاً.. فلم يطلب والدي لا بالعودة ولم يرسل أي شخص.. لأن والدي أخبر والدتي قبل رحيله لا تقلقي ولا تتسرعي سوف أسحبكم عن طريق السفارة وتأتون عبر مطار طهران إلى بغداد.. ولكن والدتي لم تنتظر طلب والدي، وبعد ثلاثة أيام فقط من رحيل والدي قررت والدتي أن نربط مصيرنا بمصير والدي ومهما كانت النتيجة دون أن نعرف ماذا جرى لهُ بعد عودته حتى ذلك الحين.. وصرحت والدتي بأن بقائنا في إيران غير مبرر دون وجود والدي معنا.. وكان قرار شخصي منها وعرضتها على أبن عم والدي العم خالد اليوسفي وخالي الكبير خليل وخالي لطيف عبد الله الذين أيداها في هذا القرار.. وباشرنا كأول وجبة من العوائل الملتحقة بالعودة إلى بغداد وكانت هناك العشرات من العوائل أيضاً التي هيأت نفسها بقلوب مكلومة للعودة ومهما كان المصير الذي سيواجهونه.. وباشرت قوافلنا العائدة من مدينة نغدة عبر كرمنشاه وقصر شرين، ثم إلى داخل الحدود العراقية القريبة من خانقين حيث تم تسجيل أسماء العائدين وكانت هناك وسائل الإعلام والإعلاميين.. وأحد الإعلاميين ومن الشخصيات الكوردية ألتقى بوالدتي ودار بينهما حوار.. للأسف لا أتذكر أسمهُ، والشهادة لله رغم عدم إلتحاق هذه الشخصية بالثورة ولكنه كان في أشد حالات الحزن والألم لهذه النهاية وما آلت إليه الثورة، وكان يعلم برأي والدي منذ البداية وكان يقول لوالدتي يا ليتهم سمعوا كلام السيدا منذ البداية.
ثم توجهت بنا الحافلات من الحدود العراقية إلى مدينة بعقوبة ومن هناك أستثنينا نحن عائلة صالح اليوسفي من بين العوائل بعد معرفتهم بوصولنا وتوجهوا بنا بدعوة من محافظ ديالى (عيادة كنعان الصديد) إلى حيث مكتبه الخاص بناءً على طلبه، فأستقبلنا محافظ ديالى بحفاوة بالغة ورحب بعودتنا وعزمنا على العشاء في نفس مكتبه حيث كنا منهكين من السفر الطويل، وتحدث مع والدتي وقال لها أن الأستاذ صالح اليوسفي ضيف عزيز علينا وهو الآن في بغداد، وأتصل بالمراجع العليا وأخبرهم بوصولنا فأخبروهُ بأن يرسلوا عائلة صالح اليوسفي إلى بغداد فوراً.. وكان الوقت منتصف الليل فأحضروا لنا باص(كوستر)حيث كنا نحن وعائلة خالي لطيف عبد الله وكذلك أبن عم والدي حازم اليوسفي.. أما خالي خليل وأبن عم والدي خالد اليوسفي فقرروا أن يكونوا مع مجموعة العائدين إلى حين أن تتم الإجراءات بشأنهم..
توجه بنا الباص إلى بغداد وإلى حيث فندق (كارلتون - مقابل قيادة القوة الجوية حينها) مباشرتاً، وكان والدي في الفندق بأنتظارنا بقلق وسر بلقائنا كثيراً.. فجلسنا معهُ في صالة الفندق وأخذ يتحدث لنا عن كيفية عودته.. وكيف أنقذهُ الله بأعجوبة في طريق عودته حيث كان مستهدفاً لإغتياله من قِبل عملاء إيران.. وأخبرنا إنهُ منذ بداية وصوله ولحد الآن يلتقي بشكل شبه يومي ببعض الشخصيات في لقاءات متواصلة.. وقد دار بينهم وبين والدي نقاش وحوار حول مطالب الحركة الكوردية وأسباب إندلاع الحرب.. والفرص الممكنة لإجراء المفاوضات لإيجاد أفضل الحلول لكلا الطرفين والشعبين المتآخيين.. ولكن لحد الآن لم لا يستطيع مقابلة الرئيس أحمد حسن البكر أو صدام، ولكنهُ ألتقى على ما أذكر وما أشار إليه الأستاذ حازم اليوسفي أيضاً(4) بنعيم حداد (وزير وعضو القيادة القطرية) ومحمد محجوب عضو القيادة القطرية على ما أذكر، وفاضل براك (رئيس جهاز المخابرات العراقية) وأستمر براك بزيارة والدي بين الحين والآخر، والمذكرات التي ووجهها والدي للرئيس البكر وصدام لاحقاً كانت عن طريق فاضل براك وبتشجيع شخصي منهُ.. كان فاضل براك يؤيد وجهات نظر والدي وكان يحاول ترتيب مقابلة لوالدي مع البكر أو صدام، ولكن تعنت وإصرار الجانبين حال دون ذلك.. بالنسبة للرئيس أحمد حسن البكر وكما عرف والدي كان مستاءاً بسبب إرساله موفوده الأستاذ فؤاد عارف (في صيف 1974) من أجل إحياء السلام بين بغداد والقيادة الكوردية، إلى أن القيادة الكوردية صرفت النظر حينها عن تلك المبادرة..!! كما أخبر والدي والدتي أنهُ في البداية كان متفألاً بعض الشيء من مساعي البعض منهم ولكن لحد الآن لم يسمع منهم الجواب الأخير.. هذا الحديث كان يوم لقائنا بوالدي على الأغلب ليلة 27 آذار 1975.
هيؤا لنا في تلك الليلة عدة غرف وتمت تهيئة كل وسائل الراحة لنا من ناحية الخدمات وبقينا بصحبة والدي لبضعة أيام أخرى في الفندق.. وبعد عدة جلسات مع الشخصيات الحزبية والقيادية.. أستلم والدي الجواب النهائي من القيادة العراقية وقيل له أن الرئيس البكر ونائبه صدام يعتبران أن الحوار بين الطرفين أصبح بغير ذي جدوى وقد أنتهى كل شيء..!
يذكر الأستاذ فاروق ئاكره يى: ((أشهد أن اليوسفي كان جريئاً، وصادقا، ومدافعا عن حقوق شعبه، والإنسانية والسلام.. كانت هناك علاقة بين الشهيد اليوسفى ونعيم حداد وقسم من أعضاء قيادة البعث الذين كانوا أعضاءا فى لجنة السلم العراقى للفترة من 1970-1974.. ويقال فى أحد اللقاءات مع الشهيد دخلوا معه فى نقاش عن القضية الكوردية وتفاجؤا من موقفه الصلب ودفاعه عن قضية شعبه كما كان قبل دون ضعف أو تغير.. فيقال بأن أحدهم علق على موقفه قائلا: (الأستاذ اليوسفى يناقشنا بنفس موقفه القديم متصوراً بأن قيادته المتمثلة بالبارزانى لا يزال موجودين فى الجبل بنفس القوة والصلابة..) إطلعني الراحل على فحوى تقرير، فيه منتهى الشجاعة، بمطالبة نظام البعث لحل عادل لمعضلة الكورد والعراق، ورفض المساومة على حقوق الشعب، عرضت السلطة عليه الأموال والمناصب، لكنه رفض، للأسف، أن بعض السذج أتهمه بتسليم نفسه لبغداد بعد إنهيار ثورة أيلول في آذار١٩٧٥،أشهد بأنه أبلغني في داركم بنغدة إيران، أنه قرر المغامرة الخطيرة، عسى أن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كان صامدا ويرحب بالشهادة في سبيل الوطن، كان دائما ينصحنا بالصمود وصيانة المبادئ.. ))... يتبع
مصادر وهوامش:
(3،1)جريدة خه بات - العدد 961 - ص 15 - الأستاذ محسن دزه يى.. هل الدفاع عن الحق في حلجة إلى تخويل.
(2)بابكرآواه أو باوه كراوا، حقيقة لا أعرف الأسم الحقيقي لهذه القرية، ربما الأسميين ينطبق عليها، أرجو من يعرف حقيقة الأسم أن يفيدني بها ومَن يملك لها صورة أن يرسلها لي مع جزيل الشكر.
(4) لقاء للدكتور حميد عبد الله بالأستاذ حازم اليوسفي (شاهد على العصر) قناة الفلوجة.