1 قراءة دقيقة
الحلقة: التاسعة والستون - الجزء الثالث من رحلة النفي..



الحلقة: التاسعة والستون - الجزء الثالث من رحلة النفي..
بقلم: زوزان صالح اليوسفي

مع ساعات الفجر الأولى نهضنا لنواصل رحلتنا سيراً دون توقف طوال ساعات النهار والليل، وأشتد علينا الإنهاك والتعب من المسير الطويل وهطل علينا زخات من المطر الشديد.. أخذنا نسير بكل سرعة وفي ظل حلكة الليل وزخات المطر إلى أن وصلنا إلى بناية مهجورة في قرية صغيرة خاوية تماماً..! كنا منهكين من التعب والجوع والبرد والبلل من الأمطار.. فمكثنا ليلتنا هناك لبضع ساعات لحين توقف الأمطار، كنا نخشى أن نشعل النار خوفاً من قصف الطائرات، وداهمتنا البراغيث..! يبدو أن هذا البيت كان مستوطنة لهم، وقضينا الليل في ظل هرش أجسامنا حتى أننى نسينا الجوع والبرد.. ويبدو وأننا كنا وليمة رائعة لتلك البراغيث الجشعة..! (كجشع المسؤولين في الوقت الحاضر..).
في الصباح الباكر أنطلقنا مرة أخرى في السير طوال اليوم، كنا نريد أن نصل إلى مكان آمن، كنا نمضي ونمضي وكأن الطريق لا ينتهي أبداً..! وصلنا إلى حيث المناطق القريبة من سد دوكان، كنا نسمع هدير المياه القوية منها، واصلنا إلى أن وصلنا إلى مدينة رانيه.
في رانيه أستقبلنا المناضل القيادي(عبد الرحمن كومه شين) بحفاوة، وكان حينها المسؤال عن تلك المنطقة، وزع العوائل على مجموعة من البيوت، وأخذنا نحن عائلة صالح اليوسفي في ضيافته، حيث كان لوالدي معزة خاصة عندهُ، قضينا ليلتنا.. وفي صباح اليوم الثاني كان المناضل عبد الرحمن طوال النهار يرتب مع القيادة الطريق الآمن إلى مدينة قلعة دزه كمحطة ثانية لنا بعد رانيه.
في المساء حضر عدد من سيارات اللاندروفر المموهة بالطين لنقلنا إلى مدينة قلعة دزه (كانت سيارات اللاندروفر هي السيارة الوحيدة التي كان القياديين يستعملونها في مناطق الثورة لوعورة الطرق، وكانت جميعها تتموه بالطين لتمويه الطائرات في حالات القصف) وتعمدوا البيشمركة أن تكون الرحلة ليلاً وبسرية تامة خوفاً من قصف الطائرات، حيث كانت قلعة دزه وخلال هذه الفترة نقطة النظام المستهدفة ومدينة التجمع السياسي فيها وكأنها كانت العاصمة بالنسبة للمناطق المحررة للثورة حين ذاك(1)، فقد سبق وبأيام أن قامت مجموعة من الطائرات بشن غارات عدوانية عليها، منذ أن علمت الحكومة العراقية بقيام قيادة الثورة الكوردية بأفتتاح جامعة السليمانية للطلبة الجامعيين الملتحقين بالثورة، فتعرضت حينها مدينة قلعة دزه للقصف المتواصل صباح يوم 24 نيسان/ أبريل 1974، مما أدى إلى إستشهاد وإصابة عدد كبير أغلبهم مدنيون من مواطني المدينة ومن طلبة وأساتذة جامعة السليمانية، وكان الهدف من هذه الجريمة البشعة هو ضرب جامعة السليمانية التي تم نقلها إلى مدينة قلعة دزة بعد إغلاقها من قِبل سلطات النظام.
ركبنا سيارات اللاندروفر المعدودة وبالكاد حشرنا أنفسنا فيها، وأنطلقت بنا نحو مدينة قلعة دزه، أستمرت الرحلة طوال ساعات الليل ومن خلال الطرق الوعرة التي كان السواق البيشمركة يعرفونها شبراً شبرا حتى دون إضاءة أنوار السيارة..! خشيةً أن تستهدف في قصف الطائرات.
وصلنا إلى مدينة قلعة دزه مع ساعات الصباح، وضعونا في إحدى المدارس حيث كان العديد منا مرضى وفي حالة يرثى لها، في اليوم التالي توجهنا نحو الحدود الأيرانية وبنفس السيارات، وبعد ساعات وصلنا للحدود العراقية الإيرانية، كانت الثلوج قد أكتسحت الحدود تماماً، والأمطار قد جعلت من المستحيل مرور سياراتنا التي غاصت تماماً في الوحل..! حاولوا الرجال مع البيشمركة إخراج السيارات، ولكن دون جدوى فقد أمتزج الطين مع الثلوج وأصبح من المستحيل إخراجها.
كان البرد في الخارج قارصاً إلى حد لايطاق..! ولم نكن نرتدي إلا تلك الملابس الخفيفة منذ أن أنطلاقنا من بغداد.. أضطررنا قضاء تلك الليلة على الحدود وفي الحقيقة كانت ليلة من الليلاء..!! لا يعلم بها سوى الله، من شدة معاناتنا من البرد وقد تجمدنا تماماً..! لم يستطع الرجال تحمل بكاء الأطفال ومعاناة الكبار فأشعلوا النار وتجمع الجميع حولها ولم يعد هناك المزيد من المكان للجميع، فضطر البعض منا أن نبقى في السيارات.. المجمدة تماماً..! وقضينا الليل بكامله على الحدود حتى ساعات الصباح، إلى حين تمكن رجال البيشمركة مع ساعات الصباح إخراج السيارات من الطين، ثم أنطلقوا بنا إلى نقطة الحدود مع إيران.
تفاجأ حرس الحدود الإيرانيون بقدومنا وفي هذه المنطقة المحظورة عسكرياً..؟! مكثنا على الحدود لساعات طويلة لحين السماح لنا بالدخول إلى الأراضي الإيرانية، توجهوا بنا إلى مدينة (خانى) الإيرانية التي تبعد مسافة عن الحدود، جمعونا في إحدى المدارس التي كانت قد سبق وأن تم تخصيصها لإستقبال جرحى قصف مدينة قلعة دزه، جاء عدد من الكادر الطبي الإيراني يتابعون حالات المرضى منا، فمن كان حالته شديدة يدخلونه إلى مستشفى المدينة، كانت أختي هافين من ضمنهم، زرناها صباح اليوم الثاني في المستشفى، رأينا العشرات من جرحى قصف مدينة قلعة دزه قد أمتلأت بهم ردهات المستشفى، ومن شتى أنواع الإصابات..
في صباح ذلك اليوم أنطلقت بنا منشآت إيرانية سياحية إلى حيث مدينة (شنوه) الإيرانية والتي كانت تبعد مسافة طويلة إلى الشمال من مدينة (خانى) حيث خيموا هناك مخيم لعوائل اللاجئين الكورد، وصلنا عصراً إلى مخيم مدينة (شنوه)، أغلب العوائل نزلت في المخيم، بالنسبة لنا كانت هناك تعليمات لأخذ عائلة صالح اليوسفي إلى مدينة نغدة، حيث كانت أختي الكبيرة نارين مُقيمة فيها برفقة زوجها شكيب عقراوي (أنتقلت أختي نارين إلى مدينة نغدة بعد أن أشتد القصف على منطقة سكناها في (جومان) حيث كانت جومان مستهدفة بأستمرار من قِبل الطائرات، نظراً لوجود العديد من مقرات القيادات الكوردية فيها)، توجهت بنا المنشأة إلى مدينة (نغدة) التي تبعد مسافة نصف ساعة تقريباً من مدينة (شنوه).
كان والدي وشكيب عقراوي وأختي نارين على دراية بكل ما جرى لنا بعد أن وصلتهم أخبارنا، فكانوا في غاية القلق ويتابعون أخبارنا لحظة بلحظة، كانت سعادتنا لا توصف بلقاء أختي نارين، تفاجأت وتأثرت حين رأتنا في حالة يرثى لها من الهُزال والتعب وكأننا قادمين من العصور الغابرة..!! وأخبرتنا أنها منذ أن سمعت هي وأبي بترحيلنا لم يهنأ لهما بال من القلق علينا، وصلت الأخبار إلى والدي بسلامة وصولنا إلى مدينة نغدة، فجاء من مقره في (باوه كراوه)، كان والدي في غاية السعادة بلقائنا وكأن حملاً من الهَم قد إنزاح عن كاهله لشدة قلقه علينا.
تأثر والدي لرحلة مسيرتنا، وأكثر ما أحزنهُ وأقلقهُ هو ما جرى لعمتي أسماء وما واجهتها من حالة نفسية ثم فقداننا لأثرها أثناء الترحيل، وفي الحال كلّف والدي البيشمركة بالبحث عن عمتي أسماء في محيط تلك القرية التي غابت فيها عمتي، بعدما أخبرناهُ بالتفاصيل عن ذلك الموقع والقرية التي مررنا بها.
بعد أيام قليلة عادت عمتي العزيزة أسماء بعد محاولات والدي وبجهود البيشمركة الأبطال أستطاعوا العثور على عمتي في نفس القرية التي أختفت فيها، والحمد لله كانت بحالة نفسية أحسن بكثير مما كانت عليه خلال رحلة ترحيلنا حيث أخبرتنا: ((إنها كانت متعبة جداً في ذلك اليوم فدخلت إلى إحدى البيوت في القرية لكي ترتاح قليلاً، وأن أصحاب البيت كانوا كرماء جداً، فرقوا لحالها وتعاطفوا معها وأدركوا محنتها ومعاناتها النفسية والجسدية، وعندما أرتاحت عمتي بعض الشيء كانت المجموعة قد رحلوا وغابوا عن ناظرها، فرأفت تلك العائلة بحالها وأستضافتها على أمل عودة أحد من أقربائها..)) ففرحنا جميعاً بعودة عمتي أسماء، (ولكن وللأسف بعد تلك المحنة لازمتها تلك الآثار النفسية وأثرت على صحتها كثيراً إلى أن وافتها المنية في صيف 1980).
كانت رحلة نفينا مملؤة بالمعاناة والأحداث والمغامرات والمفاجأت، التي أنقذنا الله فيها من الكثير من المواقف، كان يتوقف عليه مصيرنا ما بين الحياة أو الموت، منذ اللحظات الأولى من ترحيلنا وعلى مدى أسبوعاً كاملا تقريباً، كانت مجموعتنا هي الأولى التي بادرت الحكومة بترحيلها، أعقبتها بعد ذلك حملات أخرى في عموم مدن العراق، فتوافدت جموع المُرحلة من اللاجئين على أيران وتوسعت المخيمات في كافة المناطق والمدن القريبة من الحدود العراقية الأيرانية، حتى أن البعض من عوائل البيشمركة كانوا يعيشون في العراء ودون خيم تأويهم.
سارت بنا الأيام في مدينة نغدة بعد أن ألتم شمل عائلتنا مرة أخرى في ظل رعاية والدي الحبيب.. ولكن ظل والدي يحمل هموم شعبه أكثر فأكثر نحو المصير القادم.. وظلت نفس الجماعة تعاديه... يتبع

الهوامش والمصادر:
(1)بقت المدينتين رانيه وقلعة دزه الحدودية مسيطر عليها من قبل البيشمركه لغاية نهاية آب 1974، حيث سيطرت البيشمركة على العوارض الجبلية المسيطرة على الطرق الرئيسية والمضائق والخوانق، وأغلقتها بوجه السابلة المدنية والقطعات العسكرية (عمليات الجيش العراقي سنة 1974 - 1975 في شمال العراق.. اللواء فوزي البرزنجي)، مجلة كاردينيا
(2)الجامعة قصفت بطائرات سيخوي حربية عراقية بوحشية صباح يوم 24/4/1974، وأدت الغارة إلى إستشهاد المئات من طلبة الجامعة وطلبة المدارس والأطفال وأتذكر أسماء بعض الطلبة الجامعيين الذين استشهدوا نتيجة الغارة البربرية: هيوا عبدالغفور، محمد انور القره داغي، آزاد حسين، برهان عبدالله، سوران محمد صالح سام سام، عبدالغني غريب، آزاد حمه غريب وأستشهدت عوائل بالكامل في تلك المجزرة المروعة. الإنطلاقـة .. من طليطلة إلى بـغداد عـادل مــراد

تم عمل هذا الموقع بواسطة