الحلقة: التاسعة والسبعين - الجزء الرابع من أحداث أتفاقية الجزائر.
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أود في بداية هذه الحلقة أن أشير إلى أن العلاقة ما بين والدي والزعيم ملا مصطفى البارزاني كانت علاقة أستثنائية ومميزة تشوبها مشاعر المحبة والأحترام والتقدير (وقد أشرت إلى العديد من تلك المواقف خلال حلقاتي الماضية، وقد ذكر الأستاذ فاروق ئاكره يى: (( كان اليوسفي مؤمناً بقيادة البارزاني التاريخية لمسيرة الكفاح الكوردستاني وكان دائماً يصفه (بالجنرال البارزاني) وبدون قيادته وحب الجماهير لهُ لن تكون هناك حركة كوردية تحررية تتبنى مطاليب الشعب وتحقق طموحه، لكنه كان مرتاباً من التحالف ورغم المبررات بإيران ويعتبر الأعتماد على النفس صانعة للمعجزات..(1))).
علمنا من والدي أنه في ذلك الاجتماع الهام والصاخب للقيادة الكوردية والذي تم عقده مباشرة عقب التوقيع على إتفاقية الجزائر في 13 آذار 1975 بعد عودة الزعيم البارزاني ووفده المرافق من طهران أثر لقائهم الأخير بالشاه.
كان اجتماعًا صاخباً..! حضرهُ كل قيادات المكتب السياسي وبعض الشخصيات من أمثال الأستاذ أبراهيم أحمد وآخرين.. الجميع كانوا مصدومين من هول الفاجعة وملتزمين بالصمت المطبق..! كان والدي منفعلاً جداً خلال ذلك الإجتماع ومسيطراً على الإجتماع بكل قوة وجرأة وألم نفسي، وأخرج كل ما في جعبته من مشاعر الألم والحزن من تلك الأتفاقية ومن تحذيراته المستمرة، ومن شدة أسفه وحزنه الشديد إلى ما آل إليه مصير هذه الثورة وهذا النضال الطويلة والتي ووقعنا أخيراً في فخ الشاه.. فإن والدي وبعد نقاش طويل قال للزعيم في لحظة إنفعاله من فاجعة الأتفاقية: " أنتحر... فأجاب الزعيم لو لم يكن الانتحار في الشرع حراماً لانتحرت.." بالطبع لم يكن هيناً على والدي أن يطلب ذلك من زعيم الثورة الكوردية الذي كان والدي يعتبرهُ دوماً رمزاً من رموز الثورة ونضال الشعب الكوردي ولآخر لحظات حياته(2). إلا أنه كان متأثراً جداً لأنهم لم يستمعوا لإرشادته ونصحه.. ليؤدي في النهاية مصير نضال عقود وقادته في فخ الشاه المقبو.. ليتلاعب بمشاعر الآلاف من أبناء الشعب الكوردي ويستغلهم كبضاعة للمساومة من أجل تحقيق مصالحه الشخصية.
لذا ولشدة قلب والدي المفجوع من الأتفاقية وما سيترتب عليها من نتائج كارثية مما سيواجه أمة الكورد من جراء ذلك ثار على كل الحضور.. وهو يذكرهم بما حذّرهم قبل بداية الحرب في مفاوضات 1974، وذكَّرهم بأن لا يُسلّموا مصيرهم لشاه إيران، وبعد أن أفشى غليل صدره المفجوع بما كان يحملهُ ويتوقعه من كارثة... استمر والدي في إبداء آرائه وإرشاداته لأعضاء القيادة قائلًا: "ما دامت الثورة قد اندلعت كما أردتموها، إذن فيجب عدم الإنصياع للشاه برمي السلاح بل علينا الاستمرار بالقتال والاعتماد على أنفسنا..."
بعض أعضاء القيادة كانوا ضد فكرة والدي خشية غضب الشاه..! فقال لهم جملة لا يزال صداها في أذهان وضمائر أولئك الذين كانوا في الاجتماع قائلاً: " في الوقت الذي كان علينا أن لا نحارب ونصحتكم حينها لكنكم حاربتم.. والآن أقول لكم يجب أن نقاتل ونصمد ولكنكم ترفضون وتقولون إن القتال والمقاومة ليسا من صالحنا..! عليكم الآن أن تواصلوا القتال كما بدأتم به فإننا قد نستطيع به الضغط على الحكومة العراقية لإلغاء هذه الاتفاقية ".
( إن والدي لم يكن يوماً رجل عنف وليس ميالًا للحرب قدر الإمكان، لكنه هذه المرة كان يعتقد أن رمي السلاح فجأة وفوراً هو إنصياع لطلب الشاه.. ويعتبر إذلالًا للثوار الكورد، ولم يكن يرغب أن تنهار الثورة بهذه الطريقة المُشينة، كان يريدها أن تستمر لعدة أسابيع أخرى لعله يستطيع أن يجد مخرجاً مُشرفاً لإيقاف الثورة..). عقب ذلك وبإرشادات من والدي خططت القيادة أن تفتح ثلاث جبهات في مناطق الثورة، وبالاعتماد على أنفسهم دون اعتبار لقرارات ومساعدات شاه إيران.. وفعلاً أستمر القتال وحققت أنتصارات جيدة، اتخذت بعد اجتماعات مكثفة لقيادة الثورة والحزب الاحتياطات المطلوبة فوضعت خطط عسكرية جديدة ووزعت المؤن وتم تخزين السلاح والعتاد، وقسمت المنطقة الى ثلاثة مراكز عسكرية:
(( المنطقة الأولى.. منطقة حاجي عمران في محافظة أربيل.. بقيادة السيدان مسعود وإدريس البارزاني إضافة إلى الكوادر الحزبية والعسكرية منهم الشهيد سامي عبد الرحمن ومقدم يوسف ميران وفرنسوا حريري والقائد العسكري عبدالله آغا بشدري والنقيب الركن آزاد ميران وآزاد نجيب برواري والدكتور نجم الدين كريم وكريم سنجاري وآخرين.
المنطقة الثانية.. منطقة بنجوين شرق محافظة السليمانية وأنتخاب السيد نوري شاويس مسؤولا عنها إضافة إلى السياسيين والعسكريين، وانضم اليه السيد فاروق ملا مصطفى مسؤول الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزية) في كردستان حينها، ومعه عدد من الشيوعيين العراقيين العرب والكرد، وكذلك مكتب اتحاد طلبة كردستان بقيادة عادل مراد.
المنطقة الثالثة.. في مناطق بادينان وعين لقيادتها الشخصية الوطنية السيد صالح اليوسفي للأشراف على العمل السياسي والعسكري في مدن محافظتي دهوك والموصل، وكان معه عدد من خيرة الكوادر السياسية والعسكرية من اهالي المنطقة ومن ابرزهم أسعد خوشوي ورشيد سندي وعلي السنجاري وحسو ميرخان ومصطفى نيروه يي وحميد افندي وتحسين اتروشي وحميد عقراوي وآخرين..
تصاعدت العمليات الثورية للبيشمركة على جبهات القتال كافة وسجلت انتصارات كبيرة وخاصة في جبال زوزك وهندرين وحسن بك وماوت وبشدر وراوندوز كرميان ومنطقة سهل اربيل وسنجار وشيخان ومناطق بادينان بمحافظة دهوك. وبدأ أهالي كردستان يشعرون بالاعتزاز بقدرات قواتهم في مواجهة جيش النظام العراقي المسلح تسليحاً متطورا دون أية مساعدة خارجية. فانخرط الآلاف من المواطنين في صفوف الثورة من جديد، وشعر الكثير من الوطنيين بأن كاهل إيران قد أزيح عنهم.. (3))).
ومن جانب آخر حاول المكتب السياسي أن يبادر من جانبه في جس نبض الحكومة العراقية على حوار والسلام مرة أخرى.. إلا أن الرد جاء سلبياً من الحكومة ومن خلال نصرهم الموهوم بأتفاقية 6 آذار.. يذكر الأستاذ فاروق محمود ئاكره يى: (( أرسل المكتب السياسي للحزب برقية تاريخية إلى الحكومة العراقية. داعية إلى الحوار الوطني وتفويت الفرصة على أعداء العراق وإنقاذ من مخاطر المستقبل والمؤامرات الإقليمية والدولية. لكن الحكومة ردت على المبادرو بأستخفاف ووعيد وإن الملاذ الوحيد هو الأستفادة من العفو العام(4)))...]تبع
المصادر والهوامش:
(1، 4)من ذاكرة ناشط بارتي - فاروق محمود ئاكره يى - ص 84.
(2)نقلاً عن أحد أبناء عمومة والدي (يوسف اليوسفي) كشاهد عيان الذي كان برفقة والدي في إحدى مأدبات الغداء عام 1979 ومن خلال دعوة شخصية لوالدي حضرها عدة شخصيات سياسية وثقافية وأدبية، ومن ضمنهم الأستاذ علي الوردي.. الذي تطرق من خلال حواره إلى إنتقاد شخصية الزعيم البارزاني.. إلا أن أبي ردّ عليه في الحال وقبل أن يكمل حواره.. وقال لهُ: لا أسمح لك بأنتقاده.. فالبارزاني سيبقى رمزاً من رموز أمة الكورد.. في ذلك الوقت الذي كانت الحكومة في أوج غطرستها، رغم ذلك لم يخشى والدي وصرح برأيه بكل جرأة أمام الحضور.
(3)الحوار المتمدن - مقابلة مع السياسي عادل مراد - مسعود محمد