1 قراءة دقيقة
الحلقة:التاسعة والخمسون

الحلقة:التاسعة والخمسون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

في بداية هذه الحلقة أشكر الأستاذ الفاضل بير خدر على هذه الشهادة.. يقول الأستاذ بير خدر: المناضل العتيد صالح اليوسفي عضو المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكوردستاني لفترة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ومن أحد أبرز مؤسسي الحركة الإشتراكية الكوردستانية، كنت للفترة من أعوام 1970/1973 أشاهده عندما يحضر الأمسيات الثقافية التي تقيمها جمعية الثقافة الكوردية في بغداد حيث كان يشغل مهام رئاسة الجمعية حينذاك، إضافة إلى رئاسته لإتحاد الأدباء الكورد، ومسؤولية الفرع الخامس للحزب الديموقراطي في بغداد، وألتقيته ربيع عام 1973 في مقر الوزارة في بغداد حيث كان يشغل مهام وزير الدولة قصدته طالباً منه التدخل لدى السلطة للإفراج عن مجموعة من مناضلي الحزب الديموقراطي الكوردستاني المعتقلين في بغداد من أهل (باشيك وبحزان وشيخان(1)) إثر أحداث باشيك في العام نفسه حيث كان من ضمن المعتقلين شقيقي (پیر خلیل)، بعد ترحيب المناضل صالح اليوسفي بي رفع سماعة الهاتف ليتصل بالسيد (عبدالخالق السامرائي)، وقال لي: ليس بيدنا غير هذا وهو ضمير البعث (يقصد عبد الخالق السامرائي) ليستفسر منه عن مصير الموقوفين بسبب أحداث باشيك والذين جلهم من أهل باشيك وبحزان ما عدا شقيقي بير خليل والمرحوم قاسم خدر شيخ بحري، وبعد الإنتهاء من المخابرة وضع اليوسفي سماعة الهاتف وألتفت إلي قائلا: يقول عبدالخالق السامرائي سوف يطلق سراح الموقوفين ما عدا أثنين منهم لربما سيحكمان حکما بسیطاً.. أنشرح صدري قليلاً لكن لاحقا كان قرار محكمة الثورة (السيئة الصيت) مغايراً لما قالوهُ للسامرائي..! حيث صدر حكم بالإعدام لمناضلين هما الشهيدين تحسين وحسين دلالة والحكم المؤبد لعدد آخر هم شيخ عطاللة ومعجون حسن وقاسم شيخ بحري وأحكام متفرقة لبقية المجموعة بإحكام تتراوح بين سنتين إلى خمس سنوات..!
كما أقدم شكري إلى الأستاذ الفاضل حسن نزاركى على هذه الشهادة نقلاً عن والده: (( مقولة شهيد الأمة صالح اليوسفي حول الشهيد عبدالخالق السامرائي عندما تحدث للمرحوم والدي قائلاً: لو كان قادة حزب البعث بأخلاق عبد الخالق السامرائي لكان 90% من الشعب العراقي قد أنتموا لحزب البعث..)).
عبد الخالق السامرائي السياسي العراقي وأحد أبرز قادة حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق ومن التيار البعثي المعتدل، كان عضو القيادتين القومية والقطرية، من مواليد بغداد ينتمي إلى قبيلة الجبور من مدينة سامراء، رشحهُ رئيس الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية التي يتزعمها كمال جنبلاط نائباً للرئيس، كان من أكثر البعثيين تفهماً للقضية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي، وكان يصرح دوماً بأمانة بالقضية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي، ولهُ علاقة متميزة مع الشخصيات الكوردية، وقال عنهُ الزعيم ملا مصطفى البارزاني: ((عبد الخالق السامرائي حمامة السلام أينما حط حط السلام معهُ))، لعبد الخالق الدور الأكبر في إصدار بيان 11 آذار من جانب الحكومة، كان يستخدم الحوار السلمي ويعالج المشاكل بحكمة، كما أقام علاقات متميزة مع الحكومات الأشتراكية في العالم عززت علاقات العراق بتلك الدول، أهتم بالثقافة ورفض أية حقيبة وزارية وتفرغ لشؤون التنظيم الثقافي، بينما كان صدام حينها متفرغ لشؤون العلاقات الخاص بالأغتيالات(2).
عبد الخالق السامرائي كان رجل مستقيم متقد الفكر واسع الحلم جسد أمثولة على جنح النزاهة وحسن الخلق والبساطة والتواضع، يسعى لنبذ الخصوص والإنطلاق لخدمة العموم من فرط تفكيره بصالح البلاد، وكان حازم وشديد البأس على المنحرفين والظالمين مهما كان منصبهم ودرجتهم الحزبية كان مهابا.. الكل يخشاه ويتحاشى التقاطع معه، ونزاهته وتواضعه أكسبه هيبة وجدانية فوق هيبة منصبه ومنزلته الإدارية والسياسية، لم يسيء لأحد ولا يعرف الظلم طريقا لفكره وقلبه، يسكن بحي عام وفي داره المتواضع، والكثيرون كانوا يحسدونه لمستواه الفكري ولشعبيته بين الناس التي أخذت تتنامى بسرعة، وكان هناك من أضحوا يحقدون عليه لإنه كان يحارب مظاهر الرفاهية والكبرياء التي تنامت بجسد الدولة وكان لايفتأ ينتقد ذلك ويصرح بآرائه دونما تحسب، وكان له أسلوبه بمعاكسة ذلك التيار بإن يستمر بتواضعه حتى إنه كان يرفض التزود بسيارة وسائق ويكتفي بركوب الحافلة العامة شأنه شأن أي مواطن عراقي(3).
ونقلاً عن الأستاذ حسن العلوي: كان لدى عبد الخالق السامرائي مشروع فكري لإعادة النظر بفكر حزب البعث في عام 1973، وأصدر كراساً بعنوان (حزب الطبقة العاملة) لتكريس نظريته بجعل البعث حزباً للفقراء، وأن يكون قيادة الحزب القطرية عمالية، ولكن هذه النظرية التي كانت قريبة من الأفكار اليسارية سبب أستياء الدكتور عبد الستار الجواري والرئيس البكر، وهكذا صدرت لي دراسة على صفحتين من الملحق الأسبوعي لجريدة الجمهورية البغدادية في العدد الصادر يوم 30 حزيران 1973 حول مشروع السامرائي ودعوت إلى إصدار (فتوى ايديولوجية) من قيادة الحزب، وأشرت إلى مستجداته ومدى أنسجامها مع القاعدة الفكرية للحزب بعد أن عرضت مسودة المقال على عبد الخالق السامرائي قبل 48 ساعة على نشره، وقد اجرى تعديلاً بخطه على فقرات منه، ولم أكن أتوقع وأنا أحمل نسختي من الجريدة قبل توزيعها في صباح اليوم التالي أن يشهد ذلك اليوم حدثاً درامياً كان يخطط له صدام حسين منذ وقت غير قصير فيعلن بيان لمجلس قيادة الثورة عن (مؤامرة) يقودها ناظم كزار (مدير الأمن العام وذراع صدام، وزميله محمد فاضل عضو القيادة القطرية ومبعوث صدام الشخصي في مهمات التصفية الجسدية(4).
في 30 حزيران / يونيو عام 1973 حدثت مفاجأة كبيرة على الصعيد السياسي العراقي..!، في محاولة إنقلاب فاشلة من قِبل ناظم كزار (مدير الأمن العام ) للإطاحة بالرئيس أحمد حسن البكر، حين دعى ناظم كزار كل من الفريق حماد شهاب (وزير الدفاع) والفريق الركن سعدون غيدان (وزير الداخلية) إلى مبنى يعود للأمن العامة بحجة إطلاعهما على الأجهزة الألكترونية الحديثة التي كانت وصلت إلى دائرته من خارج العراق، وكان ناظم كزار قد خطط أن يسيطر على المطار مثنى الدولي في بغداد لإعتقال أحمد حسن البكر أثناء عودته من جولة في بلغاريا ولكن طائرته تأخرت مما تسبب بفشل المحاولة، وإن تأخر الطائرة قد أفزع المتآمرين..! فولوا الأدبار وأنكشفوا، وأصاب الهلع ناظم كزار، فحاول الفرار مع مجموعة معه بإتجاه الحدود الإيرانية، غير أن قوات الجيش والشرطة ألقت القبض على ناظم كزار بعد أن تمكن من قتل وزير الدفاع (حماد شهاب) وجرح وزير الداخلية (سعدون غيدان) وبعدها جرى تحقيق سري مع ناظم كزار في مكاتب (العلاقات) مِن قبل سعدون شاكر بحضور صدام حسين.
يقول ناجي السامرائي رفيق درب الشهيد عبد الخالق السامرائي: (( تم إخبارنا بمؤتمر للقيادتين أبلغت عبد الخالق أن هناك مؤامرة دنيئة تستهدف حياته ولكن ردهُ كان أنه ليس لهُ عداء مع صدام أو البكر ولا مع أي شخص آخر.. وبعد أن تم أعتقال ناظم كزار كان هناك أجتماع للقيادتين في القصر الجمهوري وقبل دقائق من عقد الإجتماع وقبل دخول عبد الخالق السامرائي القاعة أعتقل من قِبل سعدون شاكر وإن أي من أعضاء القيادتين لم يتدخل أو يتحدث في الموضوع بل أكد فيما بعد نعيم حداد ومرتضى الحديثي أن من يتكلم سيكون مصيرهُ كمصير عبد الخالق..))..!
أتهِم عبد الخالق بمؤامرة ناظم كزار في تموز/ يوليو 1973 ولم يقتنع كثير من البعثيين والعراقيين بضلوعه بها وحكم عليه بالإعدام..! ثم أوقف الإعدام وأستبدل بالسجن المؤبد لتدخل شخصيات وأحزاب عراقية وعربية وأجنبية، والإحتجاجات التي قادها كمال جنبلاط.. كما تدخل قيادات فلسطينية كرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وكذلك زعماء الأحزاب العربية(5).
يذكر طاهر توفيق العاني - عضو القيادة القطرية لحزب البعث في العراق سابقاً: (( في تلك الفترة حدث تقارب بين عبد الخالق السامرائي عضو القيادة القطرية لحزب البعث وبين محمد فاضل وناظم كزار، بعد علاقة سيئة ومتوترة، بسبب الإعتقالات التي تقوم بها المخابرات لكادر الحزب الشيوعي والتنظيمات الكردية، ودفاع وأستفسار عبد الخالق المستمر عن مصيرهم..)) وخير دليل على صحة هذا القول فيما ذكرهُ شهادة الأستاذ بير خدر حين لقائه بوالدي وتعاون عبد الخالق في مثل هذه المشاكل..
كانت هناك علاقة متميزة ما بين صالح اليوسفي وعبد الخالق السامرائي منذ مفاوضات 11 آذار/ مارس 1970 وإلى حين إعتقاله في تموز 1973 بحجج واهية..! وكان والدي يحمل لهُ كل التقدير ويستنجد بمشورته في حل قضايا الشعب الكوردي نظراً لمركزه وشعبيته، فقد كان يصفهُ والدي بضمير البعث الحي، وقد تأثر والدي لإعتقال عبد الخالق حينها وبإتهامه تلك، وأعتبر الموضوع وكأنها مؤمراة ضد عبد الخالق السامرائي..!
يقول الأستاذ شامل عبد القادر: عن عبد الخالق السامرائي وكيف أن الشهيد صالح اليوسفي أتصل به مبعوثا من المرحوم ملأ مصطفى البارزاني يحذره من وجود خطر على حياته.. في نفس اليوم أرسل المرحوم ملا مصطفى البرزاني ممثلا عنه هو السيد صالح اليوسفي إلى المرحوم عبد الخالق أكد له بأن هذه المؤتمرات تستهدف حياتك وحياة الجبهة الوطنية وطلب صالح اليوسفي من عبد الخالق التوجه إلى المنطقة الشمالية من أجل التعاون، ولكن عبد الخالق رفض هذه المبادرة لكونه بريئاً من أية تهمة، وهكذا بعد أعتقاله شكلت محكمة خاصة من عزة الدوري وسعدون شاكر وحكمته بالإعدام فحدث إحتجاج وغليان داخلياً وخارجياً فتدخل الإتحاد السوفيتي وتدخلت الصين والدول الإشتراكية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وعلى أثر ذلك خفضت العقوبة من الإعدام إلى السجن المؤبد... صدام لعب لعبة أراد منها أن يضرب عشرة عصافير بحجر واحد فهو من جانب ألقى القبض على جماعة البكر وهم حماد شهاب وزير الدفاع وسعدون غيدان وزير الداخلية وعدنان شريف آمر الحرس الجمهوري وهم تابعون للبكر فأراد أن يحجم دور البكر وفي نفس الوقت يتهم عبد الخالق بالمؤامرة ويقضي عليه ولو كانت المؤامرة ليست من صنع صدام فلماذا لم يعتقل أي شخص محسوب على صدام أي من جماعته المعروفين بينما صفي الرجال المحسوبون على البكر.. جرى ما جرى ونسب صدام الى نفسه منجزات وقضايا وسرق بيان 11 آذار ونسبه إلى نفسه والجميع يعرف إنه من صنع عبد الخالق السامرائي وكذلك قرار تأميم النفط من الشركات الأحتكارية وجمع شمل جميع القوى الوطنية والأحزاب السياسية في العراق ومنها الحزب الشيوعي العراقي كما سن قانون العمل وكتبه بيده مثلما كتب قانون الضمان الإجتماعي وهذه أمور كلها تجمعت لتكون ضد عبد الخالق لإنه جاء من أجل الشعب والوطن وحمل قضية شعبه(6).
ظهرت حينها عدة توقعات بأن صدام حسين ربما كان وراء هذه المحاولة، فهناك عدة آراء تشير إلى تواطئه فيها.. وآراء تنكر ذلك على أساس أن صدام هو مَن أكتشف المؤامرة..! وعلى رأس الآراء المصرحة على تواطؤه فيها: حيث حكم بالإعدام على ناظم كزار وجماعته بعد تحقيق ومحاكمة مغلقة وسرية من قِبل سعدون شاكر وبحضور صدام..؟! فلماذا لم تعلن المحاكمة علناً لإقناع الشعب..؟! أو على الأقل إشارة توحي إلى تورط ناظم كزار شخصياً وفردياً في المؤامرة..؟!
كما صرح وزير الخاجية العراقية سابقاً حامد الجبوري من خلال لقائه: (( تسرب معلومات وما سمعت من أطباء أصدقاء حزبيين كانوا موجوديين في مستشفى الرشيد العسكري، من أحد الذين أشتركوا في عملية ناظم كزار كان رائد في مديرية الأمن العامة ومن رؤوس المؤامرة في تحقيق قال: إن الأوامر كانت من صدام..(7))).
وأضيف إن والدتي حينها قامت بواجب العزاء ومنذ الأيام الأولى للفاتحة نحو أسرة وزوجة الفريق حماد شهاب، حيث كانت قد تعرفت عليها في مناسبات عدة، وإن بيتهم كان على مسافة قريبة من بيتنا، وبعد عودة أمي أخبرت والدي بأن زوجة حماد شهاب كانت قد أصابت بحزن شديد وهستريا وكانت تتهم صدام علناً في هذه المصيبة.. خاصة سبق وأن أغتيل حردان التكريتي من قِبل صدام، وكانا حردان وشهاب من الأصدقاء المقربين لبعضهم البعض ومن الرئيس البكر..
ويبقى الحادث والمؤمرة لغزاً محيراً يفقد الحقيقة الواضحة..؟! ويبقى السؤال ولماذا أتهم عبد الخالق السامرائي بها رغم أعترافه ببرائته، وكان بأستطاعته الهرب حين عرض عليه والدي ولكنه أصرّ بكل ثقة إنه بعيد عن الإتهام..؟! وهل هناك أيدي خارجية خفية لعبت الدور الأساسي فيها ولصالح مَن..؟! وكم من الألغاز ظلت غامضة ومحيرة..؟!!... يتبع

المصادر والهوامش:
(1)شيخان قضاء وباشيك وبحزان قريتان في سهل نينوى وقريبان من برطلة، تابعان لمحافظة الموصل، وهذه المدن متنوعة وذات الأغلبية الكوردية ومنهم الأخوة الإيزديين، وقد حدثت في هذه المواقع آنذاك مصادمة مستمرة وعنيفة ما بين الحكومة العراقية وبين الموالين للحزب الديمقراطي الكوردستاني خلال عامي (1972 و 1973)، منها محاولات النظام من السيطرة على تلك المدن وتزوير الإحصاء ومحاولة تعريب المنطقة، فكانت حينها مدينة سنجار من المناطق الساخنة مثلها مثل مدن كركوك وخانقين، وبذلك أعتقل النظام العشرات من أهالي المنطقة من أعضاء الحزب ومنهم الأبرياء في سجون النظام وحكم على الأغلبية منهم بالإعدام خاصة بعد مقتل قائممقام سنجار غانم العلي.
(2،4،5)موسوعة ويكيبيديا - المراجع كتاب العراق دولة المنظمة السرية - حسن العلوي.
(3)شهيد الحقد على التواضع والإستقامة، عبد الخالق السامرائي، أسماعيل السامرائي، وكالة أخبار العرب. 
(6)الفـخ الرئـاسـي للرفاق حفريات جديدة في ذاكرة مجزرة قاعة الخلد تموز 1979 - شامل عبد القادر
(7)برنامج شاهد على العصر - قناة الجزيرة لقاء أحمد منصور مع حامد الجبوري وزير الخارجية العراقي في عهد صدام حسين.

تم عمل هذا الموقع بواسطة