1 قراءة دقيقة
الحلقة: التاسعة والثمانون - الجزء الرابع عشر من أتفاقية 6 آذار/ مارس 1975

مشاهد حية ويوميات من أتفاقية 6 آذار..(8)

محطات مؤلمة مع والدي في رحلة عودته (الجزء الثاني).
يذكر الكاتب محمد الملا عبد الكريم (مشهد رأيته على شاشة التلفزيون) قائلاً: (( بعد أنتكاسة الثورة عقب أتفاقية الجزائر المشؤومة بين العراق وإيران، تلك الأتفاقية المعادية لأماني شعبنا الكوردي، وعودة العديد من المناضلين من جبال كوردستان إلى بغداد وسائر المدن العراقية، كان اليوسفي واحداً منهم، وقبل أن أتحدث قليلاً عن هذه المرحلة أود أن أقف قليلاً عند مشهد رأيته على شاشة التلفزيون وأنا في موسكو، فقد رأيت المناضل اليوسفي وهو يسير على قدميه مخلفاً وراءه منطقة البيشمركة الذين ألقوا سلاحهم ومتوجهاً إلى أحد مقرات الجيش العراقي، وكان واضحاً أن الجو هناك باردا، وأن لم تخني الذاكرة أظن أن الثلج كان ينزل وكان اليوسفي على طول قامته مرتدياً معطفاً طويلاً تهزه الرياح، لم أتمالك نفسي من أن أذرف الدمع بحرارة لرؤية ذلك المشهد وكان يخيل للكثيرين أن الآمال كلها قد خابت وأن العدو قد دحر شعبنا تماماً وأقول لكم بكل أمانة وصدق أنني كنت تماماً على خلاف تلك العقيدة وكنت مؤمناً كل الإيمان بأن شعبنا لن يقهر وأنه لابد من أن ينهض من كبوته تلك وكنت أرى في ذلك المشهد عندما وصل اليوسفي إلى حيث كان يريد، كانت أكداس من أسلحة البشمركة ملقاة على الأرض(1))).
ويضيف الأستاذ أبو أسامة: ((كنتُ حينها أغسل ملابسي على نهر في راوندوز.. كنت جندي مستجد لا أفهم الضوابط العسكرية.. رأيت هناك سيارة مدنية وأخرى عسكرية راودني الفضول فسألت: خير أكو شي..؟!
قالو: نعم لقد وصل صالح اليوسفي..!
والله لم أتحمل أسرعت لكي أسلم عليه وأقول لهُ أني فلان بن فلان..
قالو الجنود: الظاهر أنت زايد على أهلك..!! فألتزمت بالصمت أنظر إليهم على قرب من باب قلعة راوندوز مقر القيادة.. وتم نقله من هناك.. لقد كان حكيماً صائباً ومحنكاً يملك كل خيالات الإنسانية ضحى بروحه من أجل شعبه ليكون شهيداً.. فقدنا وخسرنا هذا القائد والإنسان والوالد والحاكم الحكيم..)).
حينما أقترب والدي من القوات العراقية كانت هناك العشرات من البيشمركة مِن مَن فضلوا العودة على البقاء في معسكرات نظام الشاه.. فباشر العشرات منهم ومنذ وقف إطلاق النار يتوافدون بتسليم أنفسهم وأسلحتهم، كان منظراً وموقفاً مؤلماً بكل معنى الكلمة.. ما أبشع الذل..!
نقلا عن مراسل وكالة الأنباء العراقية كان ضمن بعثة صحفية زارت مدينة راوندوز لمعاينة الآلاف من الأكراد الذين بدأو بالتوافد إلى المقرات الحكومية لتسليم أنفسهم وأسلحتهم حيث كان بأنتظارهم عبد الفتاح الياسين التكريتي عضو القيادة القطرية لحزب البعث والعقيد سلمان شجاع اللواء الثالث(2).

شتان بين مشهدين متناقضين..! وشتان بين الأصيل والمغرور..!!
أشرت في الحلقة الماضية عن موقف آمر الوحدة المقدم (يحيى الإمارة) الذي قام فور أستقباله لوالدي بأداء التحية العسكرية له في بادرة لطف وأدب ورجولة لقائد ومناضل خذلته مصالح دولية وأجهضت ثورته (كما صرح به الأستاذ حمزة الحسن(3))، وهنا سأشير إلى غرور عبد الفتاح ياسين بنشوة النصر الموهوم ومحاولة أستفزازه لوالدي في مثل هذا الموقف المؤلم..! فشتان بين المشهدين.. وشتان بين هذا وذاك..!
يقول أحد الإعلاميين من الذين كانوا يغطون على الحدث خلال تلك الفترة واصفاً عودة والدي قائلا:(( شاهدتهُ آخر مرة على أطلال مدينة راوندوز التي دكتها المدفعية الحكومية الثقيلة في آذار 1975 كنت أقوم بمهمة صحفية في المنطقة عندما أبلغني أحد الزملاء أن صالح اليوسفي سيصل راوندوز بعد رفض الذهاب إلى إيران مع زملائه ورفاقه، فأسرعت إلى راوندوز حيث شاهدت (عبد الفتاح ياسين التكريتي) عضو مجلس قيادة الثورة وعضو القيادة القطرية يومذاك يقف منتشياً ب (النصر) الذي تحقق على الأخوة الأكراد، وعلى وجهه إبتسامة خبيثة.. وأقبل صالح اليوسفي يسير على قدميه مع مجموعة من المواطنين الأكراد، كان يرتدي معطفاً أسود وعلى رأسه قبعة سوداء.. وسلم على عبد الفتاح الياسين بتهذيب بالغ ولكن الأخير أستغلها ليقول له (ها.. صالح شفت شلون رجعت ألنا..) فقاطعه اليوسفي بأدب جم ( كاكه فتاح.. أني.. وين راجع.. أشو كل مكان هو بلدي ووطني..) وأبى رحمه الله أن يركب سيارة صغيرة كانت قد أعدت له خصيصاً من محافظة أربيل وأصر على ركوب سيارة لوري عسكري مكشوفة (ايفا) مع جماعته(4))).
كما يضيف الأستاذ هارون محمد: (( كانت مفاجأة مذهلة حيث كان صالح اليوسفي يجر قدميه من شدة الأعياء وخلفه طابور من الأكراد قارب أكثر من 200 شخص وأستقبله عبد الفتاح الياسين بقلة أدب وأستخفاف عندما سأله ساخراً: ها.. صالح أين صاحبك البارزاني..؟ ولماذا لم تلحق به..؟ فرد اليوسفي بثقة: أنا لا أترك وطني(5))).
إن مجرد تنازل والدي بأن يركب السيارة المخصصة لهُ من قِبل النظام وإصراره ركوب لوري عسكري برفقة مجموعة من البيشمركة العائدين كانت برأي قمة الشموخ وأكبر إهانة لموقف عبد الفتاح الياسين.. وهذا أكبر دليل على أن والدي أختار طريقه بأن يكون مع شعبه في هذه المحنة والتاريخ سيسجل له ذلك مهما كان موقف الأعداء.. لا شك كان والدي يخشى على مصير هؤلاء البيشمركة وأراد أن يطمئن عليهم لذا رافقهم حسب معلوماتي إلى مدينة أربيل (ما أعظم وأروع موقفك أبي الحبيب..! وما أعظم صبرك وتحملك..! ليتني متُ قبل أراك في مثل هذا الموقف.. فقد حاولتَ المستحيل من أجل أن لا نصل إلى هذه النهاية والحقيقة الموجعة.. ولكن للأسف لم يستمع إليك أحد.. فتجرعت السم لوحدك من أجل شعبك.. سلاما عليك وعلى روحك الزكية الطاهرة وسلاماً على يوم أستشهادك.. هكذا يطرز العظماء مجد تاريخهم أيها البطل المغوار.. فديتُ التربة التي وارتك أبي الحبيب..).

تعقيب على موقف الأستاذ جرجيس فتح الله.
هناك موقف أشار إليه الأستاذ جرجيس فتح الله وأنتقدهُ الأستاذ محسن دزه يى على ذلك فيما يخص والدي وشخصية عسكرية (آمر هيز - عيسى سوار - وآمر هيز تعني قائد فرقة أو فيلق) حيث سبق أن ذكر الأستاذ جرجيس فتح الله:(على أنه كان لعيسى سوار موقف شائن تجاه صالح اليوسفي وهو الذي الذي تسبب في أستسلامه وأستشهاده(6))!!
أنا أؤيد أنتقاد الأستاذ محسن دزه يى عن إدعاء الأستاذ جرجيس فتح الله.. وحقيقة لا أعرف على أي مصدر أعتمد أستاذ جرجيس في هذا الموضوع..؟! فحسب معرفتي لم يسبق أن سمعت يوماً أن والدي أو والدتي أو أخي شيرزاد أو أحد من عائلتي سبق وأن أشار إلى إدعاء الأستاذ جرجيس مطلقاً.. لأنه وحسب معلوماتي أن عيسى سوار كان يحب ويحترم والدي جداً ولنا مواقف عائلية معاً..
ومن ضمن هذه المواقف سأسرد هذا الموقف.. ففي نهايات الستينيات تمرضت زوجة عيسى سوار السيدة (كولخشان) وكانت تحتاج إلى معالجة فورية في بغداد، ورغم وجود العديد من العوائل الكوردية المعروفة في بغداد والذين يعرفهم عيسى سوار معرفة جيدة إلا أنه لم يأمن على إرسال زوجته إلى أي منزل آخر غير منزلنا، رغم حينها كان لمجرد أسم عيسى سوار من قِبل نظام بغداد يثير الكثير من الشكوك والشبهات لكونه كان قائداً عسكرياً يشير إليه بالبنان وكانت عملياته ترهب أنظمة الحكم في بغداد، لذا كان دائماً مطلوباً لدى الحكومة وعليه عدة أحكام.. فنظراً لمعرفة القيادات العسكرية الكوردية بمدى منزلة وقوة والدي لدى نظام بغداد، فكانت القيادات الكوردية والتي لا تترك مقرات القيادة عند الزعيم البارزاني في مثل هذه الحالات الطارئة كانت لا تؤمن لعوائلها الأمن إلا تحت رعاية والدي، وقد سبق أن أرسل القائد العسكري (أسعد خوشفي) أيضاً أبنته السيدة (كعبت) لنفس السبب بصحبة السيدة فاطمة أسعد شاهين زوجة القيادي نعمان عيسى، ولم تقصر والدتي على الإهتمام بهن من هذا الجانب فكانت ترافقهن عند الأطباء وتشرف عليهن.
كما كانت زوجة عيسى سوار الأولى الروسية الجنسية تزورنا في بغداد بصحبة السيدة صونيا زوجة المناضل ملا حسن البارزاني (سبق وأن أشرت إلى المناضلة صونيا)، فعيسى سوار كان يقدر ويحترم والدي كل الأحترام والتقدير.. وما زالت السيدة كولخشان (زوجة عيسى سوار) تشملنا أنا وأخواتي بكل المحبة والأحترام كلما ألتقينا بها في مجالس التعازي أو في المناسبات تقديراً لوالدي، لذا من المستحيل أن يكون إدعاء الأستاذ جرجيس فتح الله فيه شيء من الصحة..
ويضيف الأستاذ محسن دزه يى: (( كان الشهيد اليوسفي يتمتع بأحترام خاص لدي ولدى كل مَن عرفه وذلك لإخلاصه ونزاهته وطيبته، فلم أسمع عما ذكره الأستاذ جرجيس مطلقاً وسألت من زملاء صالح اليوسفي وأصدقائه والذين كانوا أعضاء في المكتب السياسي معه فأنكروا ذلك جميعاً، ثم لأجل الأطمئنان سألت من هو في أعلى مستويات الحزب وكان كل من الشهيدين اليوسفي وعيسى سوار من المقربين إليه جداً فنفي ذلك نفياً قاطعاً (7)))... يتبع

مصادر وهوامش
(1)عبق من سيرة معطرة بالنبل والمبدئية وشرف الكلمة.. الشهيد صالح اليوسفي كما عرفه بعض معاصريه - شخصيات مناضلة تتحدث عنه وتدعو إلى دراسته أكاديمياً ( جريدة التآخي ) العدد 4709 - أعد الصفحة: أحمد لفتة علي - شرين البدري.
(2،5)الكردي الصوفي الذي قتلهُ بطرد بريدي ملغوم - هارون محمد.
(3)أوهام القبض على الدكتاتور( الأخيرة) ثلاثة قوانين للموت - حمزة الحسن - الحوار المتمدن.
(4)حكاية من الماضي القريب الكردي النبيل - مقالة عثرت عليها في أرشيف أخي شيرزاد للأسف أسم الكاتب غير موجود على المقالة ونص المقالة موجودة في التصميم.
(6) تعقيب للأستاذ محسن دزه يى على ما نشره الأستاذ جرجيس فتح الله في جريدة خه بات خلال أعدادها 958، 959 على التوالي.
(6،7)جريدة خه بات - العدد 961 - ص 15 - الأستاذ محسن دزه يى.. هل الدفاع عن الحق في حلجة إلى تخويل.



تم عمل هذا الموقع بواسطة