1 قراءة دقيقة
الحلقة التاسعة والثلاثون – الجزء الخامس   طوق أمني وهجوم على بيتنا..

زوزان صالح اليوسفي

الحلقة التاسعة والثلاثون – الجزء الخامس
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي:
 طوق أمني وهجوم على بيتنا..

 أستمر والدي في نهجه وعمله الصحفي رغم العديد من العراقيل والمشاكل التي كانت تواجه جريدة التآخي ونهجها الحر، التي برزت بصورة جلية من خلال صفحات الجريدة وزواياها، وكان والدي يردّ على أية مواجهة سواء إلى الوزراء أو الحكومة حين تنتقد نهج الجريدة الحُر، ومرة أخرى أخذت التآخي تبرز سلبيات النظام الجديد دون خوف أو وجل.. وكانت هذه المشاكل والعراقيل مستمرة مع النظام الجديد الذي لم يختلف عن أسلوب النظام الذي قبله في إنتقاد أسلوب الجريدة التآخي قيدة شعرة.
خلال هذه الفترة من نهايات عام 1968 وبدايات عام 1969 لا أعرف التوقيت بالضبط ولكن كان فصل الشتاء، تعرضنا في إحدى الأمسيات إلى طوق أمني ثم حصار ثم هجوم من قبل رجال النظام على بيتنا..!
فبعد الإنقلاب بعدة أشهر وفي إحدى الأمسيات كان لدى والدي ضيوف في غرفة الأستقبال، أحد الضيوف كان المناضل مصطفى ناريمان ولا أذكر البقية، بالإضافة إلى وجود اللأخ فرهاد محمد صالح جبرائيل صوفي الذي كان مرافقاً شخصياً لوالدي وهو أبن واحد من أعز أصدقاء والدي (المناضل محمد صالح جبرائيل صوفي)، في تلك الأمسية وخلال لحظات بدأت أضواء السيارات تتوجه على بيتنا، وأصبح بيتنا محاطاً من قِبل عشرات المسلحين المنتشرين في كل مكان حول البيت، وكانت هناك جلجلة وضوضاء خارج البيت وهلع في أرجاء المحلة في منطقة المأمون ببغداد، كانت هذه مفاجأة لا يحسد عليها..! حيث كان والدي جالساً بسلام ولم يكن هناك ما يعكر صفو مجلسه البسيط، شعرَ والدي وضيوفه بهذا الحدث والصخب، وفاجئهم الموقف وأحتاروا بهذا الأمر، وحقيقة مثل هذا الحدث أستطيع تشبيهه بما كنا نراهُ في أفلام الهوليود..!، رغم إنه بالنسبة لعائلة مثل عائلتنا فأن مثل هذه المواقف أصبحت شيئاً مألوفاً وصار لدينا بعض من الخبرة والشجاعة لمواجهتها.
في مثل هذه اللحظة يحتار المرء ماذا يفعل..؟!، قد يتصرف أحياناً تصرفات دون إرادته خاصة حين يشعر بالخوف أو المفاجأة من موقف..! لذلك حاول ضيوفنا الهرب من البيت فصعدوا إلى الطابق الثاني، أحدهم وبدلالة من أخي لاوين في مساعدته على الهرب قفز إلى سطح جيراننا وتسلل عبرَ بيوت الجيران لينفذ أخيراً بجلده..!، ثم فجأة وعلى غفلة داهمت بيتنا مجموعة من المسلحين فدفعوا الباب بكل قوة، وأنتشروا بالعشرات في كل مكان وبأسلحتهم..! كان بعضهم يرتدي الملابس المدنية والبعض الآخر الملابس العسكرية وأخذوا يفتشون البيت غرفة بعد أخرى، بعد أن أنتهوا من الطابق الأرضي صعد قسم منهم إلى الطابق الثاني، وقلبوا البيت رأساً على عقب.. وأمسكوا بالبقية الذين كانوا يحاولان الأختباء أو الفرار في الطابق الثاني من بيتنا وبمساعدة أخي لاوين وأختي نارين..!
كان والدي جالساً في غرفة الأستقبال تحت المراقبة، كان مسيطراً على الوضع دون أن تبدر منه أية بادرة خوف أو قلق سوى قلقه على ضيوفه، وكان يحاول أن يقنعهم بأن يتركوا ضيوفه إلى سبيلهم ويأخذهُ حيث يرغبون.. وبعد هذه الجلجلة أخذوا والدي وضيوفه، وتركوا مرافق والدي فرهاد محمد صالح جبرائيل وشأنهُ، لكن فرهاد ولوطنيته وحبه لوالدي تصدى وأخبرهم إنه مرافق صالح اليوسفي وهو مُصمم بأن يذهب مع والدي إلى أي مكان يأخذوهُ إليه..! فقام أحد المسلحين بضربه بأخمص البندقية على وجهه نظراً لتحدي وجرأة المناضل فرهاد..!، فأخذوه هو الآخر أيضاً وأنطلقوا بهم جميعاً إلى حيث لا نعلم..!
ومع ساعات الفجر أقبل والدي عائداً، فأسرعنا إليه جميعنا ونحن في حالة من المفاجأة والغبطة والسرور..! كانت الأبتسامة وعلامات الأطمئنان لا تفارق وجهه الحبيب، كان يبدو وكأنه خرج من المعركة منتصراً..!
نقلاً عن والدتي وإخوتي الكبار إن أسباب هذا الحادث وهذا الهجوم المباغت الذي قامت به مجموعة من ضباط ومنتسبي الأمن، ومن خلال التحقيق مع والدي: (( أخبروا والدي أثناء التحقيق معه، بأنه قد وصلتهم إفادات بإن والدي كان في إجتماع قيادي مع الأستاذ عزيز الحاج..! (وعزيز الحاج هو حينها أحد قادة الحزب الشيوعي في العراق)، وأن هؤلاء المخبرين قد أشتبهوا بسيارة عزيز الحاج واقفة أمام بيتنا))..! (والخبر والإفاد لا صحة لهُ من الأساس)..!، وقد شعر والدي من طريقة سير التحقيق معهُ ومن نوعية الأسئلة التي وجهت إليه بأنهم كانوا في شك كبير من أن والدي ومن وراءه الحزب الديمقراطي الكوردستاني وعزيز الحاج ومن وراءه الحزب الشيوعي، فأن هذين القياديين قد يكونوا يدبرون لمحاولة إنقلابية ضد حزب البعث، وذلك رداً على ما قام به البعثيون ضد الثورة الكوردية وضد كوادر الحزب الشيوعي عام 1963.
هذا ما توقعه والدي حينها وتأكد من أن أولويات السلطة الأنقلابية الجديدة كان هو التخلص من قوى المعارضة الرئيسية المتمثلة بالشيوعيين والكورد، إذ كان شبح الإنقلاب العسكري المضاد لهم في 18 تشرين الثاني/ نوفمبرعام 1963 هو مصدر قلقهم الرئيسي حينها، وبعد أن تأكدوا ضباط الأمن من عدم وجود دلائل واضحة وثابتة على حدوث أي أجتماع بين ممثلي الحزبين (البارتي والشيوعي) وأيضا لعدم عثورهم على أية أسلحة أو منشورات داخل بيتنا، لذلك فأنهم لم يرغبوا بإثارة المشاكل حتى لا تسوء علاقتهم أكثر بالحزب الديمقراطي الكوردستاني وخاصة مع شخصية مثل والدي لها القوة والزخم السياسي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني وعلى الصعيد العراقي والعربي والعالمي كرئيس تحرير جريدة عراقية لها زخمها الكبير في عالم الصحافة الحرة، خاصة وأن البعثيين كانوا في بدايات أيامهم في الحكم لذلك بادروا بأطلاق سراح والدي وضيوفه خوفاً من أية نتائج سلبية(1).
خلال هذه الفترة بدأ يبرز دور صدام حسين وأخذ يخطط لإثبات وجوده على الساحة السياسية العراقية بكل قوة وثقة..! خاصة وإنه أستطاع أن يكسب ثقة الرئيس أحمد حسن البكر، وأستطاع أن يبادر بالتخلص من خصومه ويقال جاء في مقدمتهم الأستاذ (ناصر الحاني(2)).
هناك بعض المحطات نقلاً عن الأستاذ هارون محمد يذكر من خلال مقالة(3) عن وجهة نظره حول بدايات اللقاءات بين والدي وصدام حسين خلال تلك الفترة..
يذكر الأستاذ هارون محمد: (( مشكلة النظام السابق مع صالح اليوسفي قديمة وتعود بدايتها إلى نهايات عام 1968 عندما ألتقى الإثنان في لقاء أمتد ساعات، صدام بغطرسته ومغالاته في إظهار القوة من موقع المسؤولية كنائب للرئيس البكر، واليوسفي ببساطته موفداً من الحزب البارزاني.
كان صدام حسين يدرك رقم تحالف حزبه مع حزب جلال الطالباني وكان يحمل الأسم نفسه الذي يحمله حزب البارزاني(4)، وأن القوة الكردية تكمن في ذلك الشيخ الأسطورة المتنقل بين بارزان وكلالة وحاجي عمران ليس لأنه يملك نفوذاً ومليشيات مسلحة (بيشمركة) أكثر من مساعده السابق وغريمه جلال الطالباني.... خاصة وإن الحكومة كانت تمتلك من خطط وبرامج التتغير الشيء الكثير إضافة إلى أن صدام حسين كان منشغلاً بتثبيت قدميه وسطوته على حزب هش تنخره الصراعات والخلافات.
صالح اليوسفي في ذلك اللقاء رغم هندامه المتواضع وبساطة حديثه كان صلباً في مواجهة صدام حسين، فقد قال لصدام بكلام صريح بعد أن أستمع منه إلى حكايات مبالغ فيها عن قوة حزب البعث وأجهزة مؤسساته، فأجابه اليوسفي: إذا كانت كل هذه القوة والأمكانيات بحوزة حزبكم كما تتحدث الآن فلماذا إذاً ركبتم ظهر عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود ووصلتم إلى السلطة..؟
وكان النايف والداود وهما من مساعدي الرئيس السابق الفريق عبد الرحمن عارف، قد نجح في إزالة عارف، وتبوأ الأول منصب رئيس الوزراء، فيما أصبح الثاني قائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع، ومنحا رئاسة الجمهورية إلى أحمد حسن البكر الضابط المتقاعد الذي وافق أن يتعاون مع الأثنين بعد فشل في إقناع شخصية عسكرية عراقية بالقبول بها.
وصمت صدام حسين للحظات وهو يستمع إلى حديث هذا الرجل الذي حسبه بادئ الأمر شخصية بسيطة أو درويشاً كردياً هبط فجأة من الجبل إلى المدينة، سأله صدام وهو يدخل في صلب الموضوع: هل هناك إمكانية للتعاون بين حزبينا..؟
فرد اليوسفي: بالتأكيد ولكن..... (وتوقف اليوسفي هنا عن الكلام ) وأنتظر صدام أن يواصل اليوسفي حديثه ولكن الأخير ظل صامتاً وكأنه هو الآخر ينتظر كلاماً أو رداً من صدام حسين الذي أدرك أن اليوسفي يريد أن يتلاعب به ويجره إلى الحديث حول نقطة محددة، كان صدام يخشى الإقتراب منها في ذلك الوقت وهي الأعتراف بحزب البارزاني الممثل الوحيد للأكراد، وهذا يعني الطلاق مع حزب جلال الطالباني الذي تعاون مع حكم الجديد، ووافق على إشراك وزير من أعضاء حزبه في حكومة البكر، وهو طه محي الدين معروف.
وأنتهى اللقاء دون نتيجة وظل صدام يحمل في أعماقه حقداً على اليوسفي وكان يتظايق جداً من سماع أسمه عند زيارات الوفود الحزبية والرسمية إلى ( كلالة ) في شمال العراق عندما وافق البارزاني على الدخول في مفاوضات مع حكومة بغداد.
وينقل عن نعيم حداد عضو قيادة حزب البعث والسكرتير عام الجبهة التي ضمت البعث والحزب الشيوعي أنه أوجز لصدام حسين نتائج جولة من المباحثات أجراها مع قيادات حزب البارزاني في محاولة لأقناعها بالأنضمام إلى الجبهة، وجاء ذكر اليوسفي الذي أمتدحه نعيم حداد ووصف موقفه بأنه إيجابي على عكس رفاقه الآخرين الذين وضعوا شروطاً معقدة (على حد قول نعيم حداد) لمشاركة حزبهم في الجبهة، فما أن سمع صدام بأسم اليوسفي حتى غضب وثار وقال لنعيم حداد: لا تصدقه إنه يتصنع البراءة والبساطة إنه أشد (البارتيين) لؤماً وحقداً علينا.. (5))).
وتقول مصادر كردية إن كراهية صدام حسين لليوسفي تمتد إلى ما قبل اللقاء هذا إلى مناسبة جرت في منزل أحمد حسن البكر خلال زيارة اليوسفي إلى البكر في داره بحي (علي صالح) عقبا نكسة حزيران/ يونيو 1967 وصادف وجود صدام حسين وعبد الفتاح الياسين وذياب العلكاوي في منزل البكر، حيث أشتدت المناقشة بين اليوسفي وصدام عندما أبدى الأول أسفه لخسارة الرئيس جمال عبد الناصر، في حربه مع أسرائيل مؤكداً أن الحركة الكردية واثقة من أنتصار عبد الناصر على أعدائه الأمر الذي أثار صدام حسين ورد عليه أن عبد الناصر سياسي كلاسيكي يفتقر إلى الحيوية ولا مستقبل له في صراعه مع أسرائيل إضافة إلى أنه دكتاتوري يجمع حوله نماذج فاسدة وضرب مثلاً بنائبه علي صبري الذي قال أنه يعرفه منذ أيام لجوئه في القاهرة ( 1959 – 1963 ) ووصفه بأنه متعجرف وغبي..
 فرفض اليوسفي الكردي منطق صدام وقال له: مَن تكون أنت حتى تتطاول على هذا الزعيم..؟ كل عربي إذا كان عربياً حقاً يجب أن يحترم هذا الرجل ويؤيده، ويقول أحد مرافقي اليوسفي في تلك الزيارة وهو شخصية كردية معروفة تقيم حالياً في بغداد أن البكر تدخل وخفف من حدة المناقشة(6)... يتبع 

 المصادر والهوامش:
(1)التفاصيل موجودة في كتاب خواطر من ذاكرتي – زوزان صالح اليوسفي.
(2) ناصر محمد ظاهر الحاني من مدينة عانة (الرمادي) من مواليد 1917، تخرج من دار المعلمين في بغداد 1943، ثم حصل ليسانس الآداب من جامعة القاهرة عام 1947، ثم نال شهادة الفلسفة في جامعة لندن عام 1950، عيم مدرساً في كلية الآداب، ثم نقل مديراً للبعثات في وزارة المعارف عام 1951، ثم عين ملحقاً ثقافياً في السفارة العراقية في واشنطن، ثم عمل أستاذاً في جامعة لندن عام 1959، ثم أنتقل إلى وزارة الخارجية مديراً عاماً للعلاقات عام 1960، فسفيراً في بيروت عام 1961، ثم سفيراً في دمشق عام 1962، ثم سفيراً في ديوان وزارة الخارجية عام 1963، ثم سفيراً في واشنطن عام 1964، ثم في بيروت عام 1967، ثم وزيراً للخارجية من تموز 1967 إلى 30 تموز 1968، ثم عين سفيراً في ديوان وزارة الخارجية في بغداد، وأغتيل في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968، لديه عدة مؤلفات أدبية. ( المصدر: موسوعة ويكيبيديا).
(3) الكردي الصوفي الذي قتله بطرد بريدي ملغوم – هارون محمد – لندن – 2009 .
(4)كان يدعى حزب الجماعة المنشقة بالحزب الثوري الديمقراطي الكوردستاني.
 (5- 6) الكردي الصوفي الذي قتله بطرد بريدي ملغوم - هارون محمد – لندن – 2009



تم عمل هذا الموقع بواسطة