1 قراءة دقيقة
الحلقة التاسعة عشر (الجزء الثالث) بقلم: زوزان صالح اليوسفي عودة الزعيم الملا مصطفى البارزاني


زوزان صالح اليوسفي


الحلقة التاسعة عشر (الجزء الثالث)
بقلم: زوزان صالح اليوسفي
عودة الزعيم الملا مصطفى البارزاني

بعد ثورة 14 تموز صدرت الموافقة الرسمية على عودة الزعيم الملا مصطفى البارزاني وإنهاء الأحكام التي كانت صدرت بحقه ورفاقه في المنفى وبحق شقيقه الأكبر الشيخ أحمد البارزاني.

غادر الملا مصطفى البارزاني موسكو في31 من آب/ أغسطس 1958 متوجهاً إلى رومانيا يرافقه زميلاه مير حاج أحمد وأسعد خوشقي، ومن بوخارست أرسل بواسطة سفارة الجمهورية العربية المتحدة برقية إلى قادة الثورة والزعيم الركن عبد الكريم قاسم يهنئهم فيها بإنتصار الثورة، وقد رد قاسم على البرقية في الثاني من أيلول/ سبتمبر 1958 بقوله (( أننا نرحب بعودتكم جميعاً إلى العراق العزيز، وقد أتخذنا جميع الإجراءات لإصدار العفو وتسهيل سفركم ))، وفي اليوم ذاته أبرقت وزارة الخارجية العراقية إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة في براغ لتسهيل عودة البارزاني، ويشير الأستاذ مسعود البارزاني في كتابه (البارزاني والحركة التحررية الكردية) إلى أن الحزب الديموقراطي الكردستاني شكل وفدا للسفر لمرافقة البارزاني في العودة إلى الوطن وضم الوفد كلا من إبراهيم أحمد، نوري أحمد طه، صادق البارزاني، عبيد الله البارزاني، غادر البارزاني براغ في نهاية شهر أيلول متوجهاً إلى القاهرة، وأستقبله الرئيس جمال عبد الناصر بحفاوة بالغة، ثم غادر إلى العراق يوم 6 تشرين الثاني/ 1958 وأستقبلهُ في المطار جمهور كبير(1).
إن محاولة الحصول على موافقة عودة الزعيم البارزاني جاءت من عدة جهات منها محاولة من أعضاء الحزب الديمقراطي الكوردستاني، والتأييد الثاني كان من الحزب الشيوعي خاصة من الأعضاء الكورد المنتظمين فيه أو من الذين ينتمون إلى التيار الماركسي في البارتي وعلى رأسهم الأستاذ حمزة عبد الله، حيث توهم الشيوعيون بأن البارزاني وبعد قضائه فترة طويلة في الإتحاد السوفيتي قاربت أثني عشر عاماً قد أصبح شيوعياً بل إن قسماً منهم أخذ يلقبهُ ب (لينين الثاني)، وحتى أن قسم منهم كانوا يطلقون عليه (الملا الأحمر)، وأظهر أعضاء الحزب الشيوعي فرحتهم العظيمة لعودة البارزاني وفي مناسبات عديدة بإندفاع وحماسة، ووجه القيادي في الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل(حسين أحمد الراضي) مع جمال الحيدري بحملة ترحيب بالبارزاني ورفاقه، ونشروا مقالات في صحيفتهم (إتحاد الشعب) عن عودتهم ووصفتهم ب(النسور.. المناضلين..الأحرار)، وفي اليوم الثاني من عودته قابل البارزاني الزعيم عبد الكريم قاسم وتناقشا في عدة أمور وكان لقاءاً ودياً بينهما، ومُنح الزعيم بارزاني إحدى دور سكك الحديد التي كان يقيم فيها نوري سعيد وخصصت له ولعدد من المقربين إليه رواتب مجزية، وأصبح الشخصية الثانية في العراق بعد عبد الكريم قاسم(2).
ويقول الدكتور عبد الستار طاهر شريف: (( برزت الخلافات أكثر وضوحاً في منتصف عام 1959 بل وكانت اللجنة المركزية منقسمة إلى أتجاهين، إتجاه ذيلي مرتبط بالحزب الشيوعي العراقي بصورة مكشوفة وهي كتلة (حمزة عبد الله وصالح الحيدري وحميد عثمان ونزاد أحمد وخسرو توفيق وصالح رشدي) وأتجاه كان يريد المحافظة على أستقلالية الحزب(3))).
كما ويشير الدكتور عبد الستار طاهر شريف عن الخط الأول: (( أتجاه أبراهيم – جلال وأنصارهما) كان ينظر إلى التحالف مع السلطة والقوى السياسية (المزاودة) أي من ناحية تجارية، أي ممارسة السياسة بعقلية تجارية (كان أبراهيم أحمد يصرح أني كالصراف من يعطيني أكثر أتعامل معهُ) فقد كان هذا الإتجاه يدعو إلى تحقيق أكبر مكسب حزبي بأي أسلوب كان، فالغاية عند هؤلاء كانت تبرر الوسيلة.. وقد لاحظنا هذا النهج في التفكير بعد عام 1961 وحتى اليوم عند البعض من هؤلاء..(4))).

ورداً على موقف الحزب الشيوعي وجماعة حمزة عبد الله أود أن أضيف هذا المقتطف من لقاء لاحق مع المناضل صالح اليوسفي حيث جاء فيه:
((الصحفي : لقد جاء في الأدبيات القديمة للحزب الديمقراطي الكردستاني وفي جريدته الرسمية أيام ثورة 14 تموز الوطنية في العراق أنه يؤمن بالماركسية كفكر أقتصادي لتنظيم حياة المجتمع فهل لا زال حزبكم يعتبر نفسه ماركسياً أم ماذا.. ؟
صالح اليوسفي: لم يرد في أدبيات الحزب ومقرارته أيام ثورة 14 تموز بأن أرتدى حزبنا هوية الحزب الماركسي تحت ستار هوية الحزب الديمقراطي الكردستاني وإلا لما كان حاجة بوجود حزبنا الذي يجمع بين الشعور القومي والحس الطبقي بل ورد في منهجه على أن الحزب يسترشد وينتفع بالنظرية العلمية الثورية وأن المادة الخامسة من منهج الحزب المقرر من قبل المؤتمر الثامن تنص على (ينتفع الحزب في نضاله السياسي ومن تحليلاته الأجتماعية من النظريات العلمية التقدمية ومن تجارب الشعوب الأخرى بما يتفق ومصلحة شعب كردستان) ومن المفروض أن الماركسية التي هي نظرية علمية تقدمية تدخل أيضاً ضمن تلك النظريات العلمية ولكنها ليست مقتصرة عليها بوحدها كما موضح في المادة المذكورة(5))).

ما قرأته في كتب الباحثين والمؤرخين عن عودة الزعيم الملا مصطفى البارزاني إلى الوطن أرى وبكل إختصار أن الزعيم البارزاني لم يستلم قيادة الحزب البارتي على طبق من الذهب..! بل بالعكس كانت هناك العديد من المشاكل والنِزاعات التي أصبحت تواجهه بين أعضاء المكتب السياسي، فكان الحزب يبدو هشاً ومُقسماً على ثلاث تيارات..! الأول بقيادة الأستاذ أبراهيم أحمد وجماعته، والثاني بقيادة حمزة عبد الله وجماعته، والثالث كان التيار القومي العام وكان هذا التيار الأخير هو الأقوى والأكثر شعبية من قِبل غالبية الكورد وكان ضمن هذا التيار الكثير من الشخصيات الثقافية التي لم تُحبّذ العمل مع التيارين الأول والثاني ومن ضمنهم المناضل صالح اليوسفي.. وكان التيارين التابعين لإبراهيم أحمد وحمزة عبد الله يعاديان بعضهما البعض أشد عداء قبل عودة الزعيم البارزاني وبعدها.. كل واحد منهما كان يحرض البارزاني على الآخر..!، لذا نلاحظ أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني قد طُعِم ببذور الإنشقاق منذ بداية تأسيسه وكان يعاني من حالة عدم الوفاق والتجانس وكان الخلاف والتناقض بين قياديه على الصعيد الفكري والثقافي والسياسي والسلطوي..! كما ذكرتُ خلال الحلقة الخامسة عشر.
أثنى عشر سنة من غياب الزعيم مصطفى البارزاني عن الوطن والشعب وعن قيادة الحزب، وقياساً بتلك الفترة الزمنية من صعوبة الأتصالات والتكنولوجيا، إضافة إلى مشاكل العراق بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 والمرتبطة جدلياً بالكورد، كل ذلك لم يكن سهلاً على الزعيم البارزاني من وضع حد أو من إيجاد حلول لمثل هذه المشاكل الجمة..! الكل كان يتشكى لهُ..! كل جهة كانت تحرضهُ على الجهة الأخرى..!

(حتى الزعيم قاسم من خلال لقائه الأول بالبارزاني أبدى إنزعاجه من تصرفات البارتي وسكرتيره العام آنذاك (أبراهيم أحمد) ولقاءاته المستمرة بقادة حزب البعث في جريدة الجمهورية بالإضافة إلى ملاحظات عديدة عن نشاطات الحزب الديمقراطي الكوردستاني خلال غيابه فأصبح يشك في قيادته، لذا بعد هذه الشكاوي.. قرر الزعيم البارزاني من محاولة الهيمنة على الحزب على قدر إستطاعته ومجاراتاً مع شكوى الزعيم قاسم لتنفيذ بعض من رغباته لكي يتماشى مع الوضع القادم، في البداية وحين لاحظ الزعيم البارزاني مدى مساندة الحزب الشيوعي لهُ (نجح في إعادة تنصيب حمزة عبد الله سكرتيراً للحزب في كانون الثاني / يناير 1959 بعد أن نحى أبراهيم أحمد من سكرتارية الحزب،(6)).
ولكن يبدو أن هذا الحل لم يجدي أيضاً (ففي صيف 1959 حيث نبه الزعيم قاسم مرة أخرى أن حمزة عبد الله ومجموعته قد تمادوا في تعاونهم أو بالأحرى خضوعهم للحزب الشيوعي فطلب البارزاني من حمزة عبد الله أن يقلل من إندفاعه هذا، خاصة بعد أن بدأ يظهر في سياسة قاسم بعض النقد للحزب الشيوعي العراقي، كما جاء في خطبته في كنيسة مار يوسف في تموز / يوليو 1959 إلا أن حمزة عبد الله رفض ذلك متصوراً أن المد الشيوعي كان الأقوى وإنه بفضل ودعم الحزب الشيوعي العراقي يستطيع أن يهيمن على البارتي(7)).
وهنا أضطر الزعيم البارزاني من إتباع طريق الشدة لمعالجة بعض الأمور والمشاكل، فعقد المؤتمر الرابع للحزب في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1959 في بغداد في منزل (كاك زياد)، ذلك المؤتمر الأول للحزب الذي شارك فيه الزعيم البارزاني وأعاد أنتخاب البارزاني رئيساً للحزب، فأعاد البارزاني بدوره أبراهيم أحمد سكرتيراً للحزب مرة ثانية بدلاً عن حمزة عبد الله، وهذه العودة كانت بفضل الزعيم البارزاني وليس بناءاً على رغبة بعض من أعضاء الحزب..!
ومن جهة أخرى كان الصراع مستمراً بين الزعيم عبد الكريم قاسم ووزير الدفاع ونائبه العقيد عبد السلام عارف أدى إلى ألتفاف القوميين حول عارف وألتفاف الشيوعيين والديمقراطيين حول الزعيم قاسم وأدى ذلك إلى إعلان العقيد عبد الوهاب الشواف يوم 8 آذار/ مارس 1959 الحركة المسلحة في الموصل وكان من نتائج هذه الحركة أن ساءت العلاقات بين العراق والجمهورية العربية المتحدة بعد إتهام الحكومة العراقية لسلطات الجمهورية العربية المتحدة وعبد الناصر بدعم حركة الشواف وتزويده بالأسلحة والإذاعة والمعدات(8).
في التاسع من آذار / مارس 1959 وصل عدد كبير من الشيوعيين المنتمين لميليشيا (المقاومة الشعبية) إلى الموصل وبدأوا بإقامة محاكم في شوارع الموصل التي تعتقل وتحكم بـ (الأعدام) فوراً، ثم بدأت عمليات السحل والتمثيل بالجثث والتعليق على أعمدة الكهرباء، وحدث نفس الشيء في كركوك بعد أن توجه لها الشيوعيين، ونفذوا أبشع الجرائم والإنتهاكات في تموز 1959، وقد أعترف عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي (عدنان جليميران) أثناء محاكمته عام 1963 قائلا: (( إن أبرز الجرائم التي نتحمل نحن الشيوعيين مسؤوليتها الكاملة مجزرة الموصل ومذبحة كركوك.. وأتهم مهدي حميد (قائد المقاومة الشعبية في الموصل) أثناء محاكمته، إن عبد الكريم قاسم قام بإصدار الأوامر بإبادة كل من أظهر مقاومة أو حمل السلاح ضد الحكومة، أما عبد الكريم قاسم فقد حاول التنصل من المسؤولية وتبرئة ساحته وإلصاق التهمة بالشيوعيين، حيث ذكر في خطابه الذي ألقاه في كنيسة (مار يوسف) في 29 تموز/ يوليو 1959 قائلا: ((إن ما حدث أخيراً في كركوك، فأني أشجبه تماماً، وبإستطاعتنا أن نسحق كل من يتصدى لأبناء الشعب بأعمال فوضوية، نتيجة للأحقاد والتعصب الأعمى.. وأنني سأحاسب حساباً عسيراً أولئك الذين أعتدوا على حرية الشعب في كركوك.. إن أحداث كركوك لطخة سوداء في تاريخنا، ولطخة سوداء في تاريخ ثورتنا.. هل فعل ذلك جنكيز خان أو هولاكو من قبل..؟ هل هذه هي مدنية القرن العشرين..؟(9)
ومن جهة ثانية تعرض الزعيم عبد الكريم قاسم لمحاولة فاشلة لإغتياله في 7 / 10/ 1959 في شارع الرشيد بتنفيذ من حزب البعث للأستحواذ على السلطة، ألقي القبض القبض على عدد من القائمين والمتورطين في محاولة الأغتيال وهرب قسم إلى سوريا ومصر ومن ضمنهم صدام حسين، ولدى وقوع المحاولة كانت تجري عملية فرز الأصوات لإنتخابات اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني بعد إنتهاء أعمال المؤتمر الرابع للحزب(10).
في 9 كانون الثاني/ يناير 1960، تقدم السيد مصطفى البارزاني بطلب تأسيس الحزب (الديمقراطي الكردستاني) إلى وزارة الداخلية، في 9 شباط / فبراير 1960 أجيز رسمياً للحزب بشرعية عمله الحزبي، وقد ضمت هيئته المؤسسة كل من السادة:
1 – مصطفى البارزاني
2 – إبراهيم أحمد
3 – عمر مصطفى
4 – نوري صديق شاويس
5 – علي عبد الله
6 – صالح اليوسفي
7 – ملا عبد الله أسماعيل
8 – حلمي علي شريف
9 – إسماعيل عارف
10 – شمس الدين المفتي(11)
وفي شهر أيار من عام 1960 عقد المؤتمر الخامس للحزب ولأول مرة في مقر الحزب حينذاك في مدينة بغداد، ولكن المشاكل ظلت عالقة في الحزب الديمقراطي الكوردستاني حتى بعد أن أجيز العمل للحزب علناً، وحضر جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب ومن بينهم المناضل صالح اليوسفي (عضو المكتب السياسي في الحزب)، وكان المناضل صالح اليوسفي مسؤولاً للفرع الأول للحزب في لواء الموصل (موصل – دهوك)، وأصبح لهُ منذ ذلك الوقت الدور البارز في الحزب..(يتبع)
المصادر:
(1) دراسة تنشر لأول مرة: عبد الناصر والأكراد – د. أبراهيم العلاف.
(2) مصطفى البارزاني الأسطورة والحقيقة –د. فاضل باراك ص 156
(3) الجمعيات والمنظمات والأحزاب الكردية في نصف قرن – د. عبد الستار طاهر شريف – ص 191
(4) الجمعيات والمنظمات والأحزاب الكردية في نصف قرن – د. عبد الستار طاهر شريف – ص 195
(5)مقتطف من مقابلة في صحيفة الهدف الكويتية أجرها الصحفي (غازي جاسم) عام 1971 في حوار مع صالح اليوسفي.. وزير الدولة العراقي والرجل الثاني عند الأكراد.
(6) د. فاضل البراك – مصطفى البارزاني الأسطورة والحقيقة – ص 158
(7) د. فاضل البراك – مصطفى البارزاني الأسطورة والحقيقة – ص 159
(8) عبد الناصر والأكراد – د. أبراهيم العلاف.
(9) مجازر موصل وكركوك تاريخ أسود – شبكة أخبار عراق نيوز.
(10) البارزاني والحركة التحررية الكردية – مسعود البارزاني - ص 128
(11) ثورة 14 تموز في نهوضها وأنتكاستها وأغتيالها – حامد الحمداني.

تم عمل هذا الموقع بواسطة